المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اترك مسافة


علاعليازينة
12-19-2010, 09:59 AM
حين يأتي الواحد منا إلى هذه الحياة يكون مجرداً من كل شيء ومحتاجاً إلى كل شيء ، وإن المجتمع هو الذي يمنحه ما يكمل إنسانية ، ويجعله مستعداً لخوض غمار الحياة بكرامة وجدارة ، ومن هنا فإننا لا نستطيع فعلاً أن نقدِّر حجم ما قدمته أسرنا ومجتمعاتنا لنا ، ويظل من المهم أن نفكر في كيفية رد الجميل . المجتمع ليس عبارة عن مجموعات من الناس فحسب ، إنه قبل ذلك تلك المنظومة المكوًّنة من الأفكار والمعتقدات والتقاليد والعادات والرمزيات التي تشكل العقل الجمعي والثقافة العامة لذلك المجتمع ، وأود في هذا المقال أن أسلط الضوء على طبيعة العقل الجمعي وعلى الموقف الذي ينبغي أن نقفه منه ، وذلك عبر المفردات التالية :
1ـ العقل الجمعي الموجود في كل مجتمع هو عبارة عن نسيج معقد من الأفكار والمشاعر .... وهذا النسيج تم غزله على مدار قرون عديدة وبطريقة غير واعية ، فالناس لا يدرسون المفاهيم والعادات قبل أن يمتثلوا إليها ، وليس معظمهم مؤهلاً للقيام بذلك ، وقد تسوء أحوال أمة ، وتصير إلى الانهيار والبوار دون أن يملك الوعي الشعبي الفهم المطلوب لأسباب ذلك ، وما هذا إلا لأن العقل الجمعي هوالذي يقوم بتشكيل وعي الأفراد ، وهو الذي يمنحهم المعايير التي تمكنهم من التمييز بين الصواب والخطأ ، وبين الآمن والخطِر ، وبين اللائق وغير اللائق .... وكلما كانت درجة جهل الأفراد أعلى كانت سيطرة المجتمع بعقله وثقافته عليهم أشد وأكبر ، ولهذا فإن المجتمعات الأمية وشبه الأمية تعيش دائماً في حالة من الجمود والارتباك ، ويلفها الغموض من كل جهة . العلم لا ينير عقل صاحبه فقط ، وإنما ينير كذلك دربه ومحيطه ، ويساعده على فهم تاريخه وجذور مشكلاته
2ـ إذا كان العقل الجمعي يتشكل بطريقة غير واعية ، فإن هذا يعني أن في حياة الناس دائماً مشكلات وانحرافات وتأزمات ، وفي حياتهم أشياء كثيرة ليست هي الأحسن والأفضل والأجمل ، بل تستطيع القول : إن التيار العريض في المجتمع لا يكون هو التيار الراشد ، وهذا ما نجد له الكثير من الإشارات في كتاب الله ـ تعالى ـ فأكثر الناس لا يؤمنون ، ولا يعلمون ، ولا يعقلون ، وأكثرهم للحق كارهون وهم عنه معرضون ، وهذه الحالة موجودة في كل المجتمعات باعتبارات مختلفة ، ففي المجتمعات الإسلامية ـ مثلاً ـ لا يكون أهل الورع الملتزمون بالصدق القائمون على حدود الله ، الغيورون على حرماته ومصالح الأمة .... لا يكون هؤلاء هم الذين يشكلون التيار العريض أو الشريحة الأكبر ، وحين نرفع مستوى مواصفات الجودة فقد نجد أن حال معظم الخلق مطابق لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((الناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة )) .
3ـ إذا صح هذا التشخيص للبنية العامة للعقل الجمعي وللحياة الاجتماعية ـ وهذا إن شاء الله صحيح ـ فإنه يفرض علينا ألا نشعر بالطمأنينة تجاه أوضاعنا العامة ، وأن لا نستكين للرؤى والمقولات والعادات السائدة ، وعدم الاستكانة يتطلب من كل من يملك درجة من الوعي والفكر أن يترك مسافة بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه ، ونقصد بالمسافة هنا محاولة امتلاك رؤية نقدية للواقع الاجتماعي وإظهار أوجه الخلل التي تكتنفه، وهذه الرؤية هي التي تنقل المثقف من درجة عالم إلى درجة مفكر ، وبما أن المفكرين والنقاد والمجددين ، فيهم الكبار والصغار ، فإننا نستطيع القول : إن المجدد الكبير والمفكر الكبير....... هو الذي يستطيع أن يترك مساحة كبيرة تفصل بين وعيه الفردي والوعي الاجتماعي العام ، أما المجدد الصغير..... فإن المساحة التي يتركها تكون صغيرة ، لكن هذا ليس على إطلاقه ويحتاج إلى شرح وتقييد ، إذ إن القطيعة مع المجتمع ليست في حد ذاتها بالأمر العسير فقد رأينا من الملحدين والمرتدين من شنوا حرباً ضروساً ضد أهلهم ومجتمعهم وكانت النتيجة أن لفظتهم مجتمعاتهم وأصمّت آذانها عن انتقاداتهم ، مع أن فيها شيئاً من الحق والصواب ، العسير حقاً هو أن تكون المسافة بين الوعي الفردي والوعي الجمعي مدروسة للغاية ومثمرة فعلاً ، وذلك يتطلب أن يظل المفكر والناقد متواصلاً مع ثوابت المجتمع ومع مسلَّماته وطموحاته الكبرى في التحرر والازدهار، إنه أشبه بالطفل الذي ينفصل عن والدته ، لمصلحته ومصلحتها مع ما في المخاض من آلام له ولها ، لكنه بعد ذلك يظل في حجرها وتظل محتضنة له ، كما يظل ولاؤه لها مدى الحياة . إن أعز شيء على العقل الجمعي وعلى الثقافة الشعبية هو التوحد والتضامن والانسجام على مستوى الأعراف والتقاليد وكل أشكال التواصل الاجتماعي ، ومن ثم فإن الناس يستوحشون من النقد ، ويرون فيه نوعاً من التهديد للأرضية المشتركة التي تجمعهم ، وتشتد هذه الحالة حين تكون ذاكرة المجتمع مشحونة بتاريخ مملوء بالحروب الأهلية والفتن والانقسامات الداخلية ، كما هو شأن العديد من المجتمعات العربية والإسلامية ، وحينئذ فإن المطلوب من المفكرين التلطف في أسلوب النقد والقيام بحساب المسافة الفاصلة بدقة وحرص .
للحديث صلة