المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فتاة من الشرق - الحلقة السابعة


dealo
05-15-2007, 02:22 AM
شبكة الأربعة


لم تكن فكرة اغتيال الملك حسين ناشئة من فراغ. فالفلسطينيون رأوا منه أكثر مما تصوروا. . فمنذ عام 1970 وهو مرتبط بعلاقات وثيقة بالإسرائيليين خوفاً على عرشه. واجتمع بموشي ديان لمرات عديدة في محادثات سرية، في ذلك الوقت كان اللاجئون الفلسطينيون يشكلون نحن نصف سكان مملكته، ويشكلون أيضاً مصدر إزعاج متزايد له، بقيامهم بعمليات فدائية داخل الضفة الغربية انطلاقاً من الأردن، يرد عليها الإسرائيليون بالمثل، ويضغطون على الملك لوقف تلك العمليات، بتوجيه ضربة للفلسطينيين تفتت قوتهم وقواتهم.
وقد كان . . ومات عشرات الآلاف من الأبرياء فيما سمي بأيلول الأسود عام 1970. وهو الاسم الحركي للفرقة السرية الخاصة التابعة لعرفات، والتي يترأس عملياتها علي حسن سلامة الذي نفذ أولى عملياتها باغتيال وصفي التل، ثم توالت العمليات في عواصم أوروبا ضد الإسرائيليين. وبعد حرب أكتوبر توصل العرب في الجزائر الى صيغة رسمية وهي أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وشكل هذا الأمر خلافاً جوهرياً مع الملك حسين، الذي كان يدعي لنفسه هذا الحق. حتى جاء شهر يوليو 1974، ومعه خطوة هامة، عندما اتفق الملك حسين والسادات على صيغة أخرى تحفظ ماء وجه الملك. وهي أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للفلسطينيين، باستثناء الفلسطينيين الذين يعيشون في المملكة الهاشمية. فأثار البيان منظمة التحرير، وفكر سلامة جدياً في ضرورة التخلص من الملك حسين.
وحالف الحظ الملك، عندما تمكنت السلطات المغربية من إلقاء القبض على وحدتي كوماندوز فلسطينيتين، وصلتا من أسبانيا لاغتياله، وتم التعتيم على الأمر خاصة وقد حضر عرفات المؤتمر، وحقق نجاحاً كبيراً في الحصول على أكبر دعم عربي لشرعية منظمة التحرير. وبموجب مقررات مؤتمر الرباط، أصبحت المنظمة مسؤولة عن وضع الاستراتيجية التي تراها كفيلة باستعادة الحقوق المشروعة للفلسطينيين، أي أن المنظمة مطالبة باتخاذ مواقف محددة وواضحة: هل هي تريد تحرير فلسطين كلها أم جزء منها تقام عليه الدولة الفلسطينية. . ؟
وفي هذه الحالة . . كيف تستطيع إعداد الوسائل التي تمكنها من الوصول الى هذا الهدف؟. وهل هي تريد الوصول اليها بجهدها الخاص أو بالتنسيق بين استراتيجيتها والاستراتيجية العربية، وعلى وجه التحديد بين استراتيجيتها واستراتيجية مصر وسوريا - اللتين تعملان تحت قيادة عسكرية موحدة - باعتبارهما أقوى دول المواجهة في المنظمة. أو هل تريد المنظمة العودة الى قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948؟ . . أو تريد إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ . . وفي هذه الحالة . . هل هي مستعدة للاعتراف بقرار مجلس الأمن رقم 242 إذا ما عدلت الفقرة التي تتحدث عن "اللاجئين الفلسطينيين" الى "الشعب الفلسطيني"؟ . . وفي هذه الحالة . . هل هي مستعدة للذهاب الى مؤتمر جنيف؟ . . وإذا ما قررت الذهاب الى جنيف كيف يمكن حل مشكلة اعترافها بالوجود الإسرائيلي في فلسطين؟ . . او باعتراف إسرائيل بها؟. . أي الاعترافين يجب أن يسبق الآخر؟ . . عشرات الأسئلة طولبت أمينة المفتي بالتجسس على أعضاء اللجنة التنفيذية العشرة لتكشف نواياهم. والأعضاء هم خليط لكافة التيارات الفلسطينية، فهناك التيارات اليمينية المتطرفة، واليسارية والمحايدة، والمتعصبة، بعضهم شيوعيون وآخرون معارضون لهم وللماركسيين، وهناك ديموقراطيون و . . و . . الخ.
كل هذه التيارات المختلفة، متفقة فيما بينها على الاستراتيجية العامة. فالهدف - هو تحرير فلسطين، وإن كان هناك اختلاف في التكتيك طلب منها أيضاً معرفة المصادر المالية للمنظمة ومخازن السلاح في سوريا، ورأي القيادة العليا في مسألة القدس (1) لذلك . . انشغلت أمينة بشكل لم يسبق له مثيل. . وساعدها مارون ومانويل في نوبات التنصت على تليفونات القيادات الفلسطينية، بل إنها استطاعت تجنيد صديقتها خديجة زهران التي طُلقت من زوجها اللبناني، فتزوجت بغيره وطلقت منه أيضاً، وسقطت في شبكة أمينة المفتي في أحلك لحظات ضعفها وحاجتها الى النسيان . . والمغامرة. . والثراء. رباعي عجيب انطلق في مهام تجسسية صعبة، لإمداد الموساد بأخطر المعلومات عن الفلسطينيين الذين كانوا يستشعرون وجود مؤامرات لبنانية لتصفيتهم، وقالوا للبنانيين: إنكم لن تستطيعوا تصفيتنا لأنكم لا تملكون القوة الكافية لذلك. ونحن لا نريد منكم إلا تمهيد الطريق لنا الى فلسطين. والطريق الى فلسطين يمر بعينطورة وجونية، وهما منطقتان لبنانيتان مسيحيتان، إحداهما في الجبل والثانية على الساحل. فتساءل اللبنانيون: ماذا يفعل الفلسطينيون في الجبل وهو يبعد عن طريق فلسطين بأكثر من مائة كيلو متر؟ . . والحقيقة. . أن الطرفين كانا على حق. وتلك كانت مقدمة للحرب الأهلية اللبنانية.
الخطأ المدمر
وفي يوم 22 نوفمبر 1974، دخل ياسر عرفات لأول مرة مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، مطالباً بإلغاء دولة إسرائيل، وإقامة دولة ديموقراطية تتكون من العقائد الدينية الثلاثة - الاسلام والمسيحية واليهودية، والا فليس أمامهم سوى الكفاح المسلح. ويخرج وفد إسرائيل غاضباً ليصرح السفير الاسرائيلي بأن عرفات الذي قتل الأطفال اليهود، يحاول أن يقهر الدولة اليهودية بحجة فلسطين الديموقراطية.
وبعد أسبوع من لقاء نيويورك، بثت أمينة المفتي رسالة خطيرة الى الموساد، تتضمن هجوماً فلسطينياً مسلحاً سيتم بعد عدة ساعات على إحدى مدن الشمال. وقبلما تتخذ السلطات الاسرائيلية التدابير الأمنية الكافية كان ثلاثة من فدائي الجبهة الديموقراطية قد هاجموا مدينة بيت شين BET SHEAN انطلاقاً من الأراضي الأردنية على غير المتوقع، وقتلوا أربعة إسرائيليين ثم جزوا رؤوسهم تماماً وكتبوا بدمائهم: "فليرحل أبناؤكم قبلما يلقوا مصيرنا. وبعد يومين تسلق أربعة فدائيين سور مطار دبي الدولي، وفتحوا نيران مدافعهم على الطائرة البريطانية التي كانت تتزود بالوقود في طريقها الى كلكتا وسنغافورة، فأصابوا أحد الهنود واحتجزوا 47 شخصاً كرهائن وصاروا بهم الى تونس، في ذات الوقت الذي أقر فيه السكرتير العام للأمم المتحدة حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم والعودة الى وطنهم، والموافقة على اختيار منظمة التحرير مراقباً في الأمم المتحدة.
وفي نهاية شهر يناير 1975 قال أبو إياد - مساعد عرفات - في تصريح له كالقنبلة: "إنني أعد بأن هذه الحادثة العارضة ستكون الأخيرة". وبهذا التصريح، لم يعد هناك وجود لمنظمة أيلول الأسود. إذ غطت الحرب الأهلية اللبنانية على كل شيء. وأصبح مقاتلو أيلول الاسود يكرسون جهودهم لمهام أخرى. وعندما طلبت أمينة الإذن بمغادرة بيروت الى تل أبيب، أعيد تذكيرها بإيجاد فرصة مناسبة لدخول شقة علي حسن سلامة ومحاولة الحصول على القوائم السرية لرجال مخابراته في أوروبا، وخطط العمليات المستقبلية المطروحة. وعلى ذلك انتهزت أمينة فرصة لقائها بسلامة في الكورال بيتش كالمعتاد، وسألته في خطأ فادح عن أولاده. فدهش الرجل الذي لم يحدثها عنهم من قبل مطلقاً. وبحاسته الأمنية العالية ملأه الشك تجاهها، وقرر البحث عن ماضيها وطلب من رجاله في عمان إعادة موافاته ببيانات عن الطبيبة الأردنية أمينة داود المفتي، التي يعيش اهلها بحي صويلح أرقى وأروع أحياء عمان.
فجاءه الرد بأنها بالفعل طبيبة أردنية، غادرت وطنها الى النمسا للدراسة، ولمشاحنات مع أهلها قررت ألا تعيش بعمان. اطمأن سلامة لتحريات رجاله. . وتجددت ثقته بأمينة، لكن بلاغاً سرياً من أوروبا وصل الى مكتب المخابرات، قلب الأمور كلها رأساً على عقب.
الرسالة الأخيرة
أفاد البلاغ أن شاباً فلسطينياً في فرانكفورت، صرح لأحد المصادر السرية بأنه تقابل مع أحد الفلسطينيين في فيينا، وبعد عدة لقاءات بينهما في حانات المدينة ومقاهيها، أخبره بأن له صديقة نمساوية يهودية، ماتت إثر تعاطيها جرعة زائدة من عقار مخدر، تزوج شقيقها الطيار من فتاة عربية مسلمة، وهربت معه الى إسرائيل خوفاً من اكتشاف أمرها وملاحقة أجهزة المخابرات العربية لها. وأن الفتاة كانت تدرس الطب في النمسا، وانتقلت الى لبنان بعدما أسقط السوريون طائرة زوجها، الذي اعتبر مفقوداً.
كان البلاغ يحمل نبرة عالية من الشك، فلو أن الأمر صحيح إذن فهناك جاسوسة عربية بين الفلسطينيين. وطلب سلامة إعادة استجواب الشاب في فرانكفورت، ولو اضطروا لأخذه الى النمسا ليدلهم على الفلسطيني الآخر. وذيل سلامة أوامره بضرورة السرعة، والى حين تصله معلومات آخرى، طلب حصر كل الطبيبات العربيات المتطوعات في المستشفيات الفلسطينية. . واللبنانية أيضاً.
كان علي حسن سلامة شاباً ذكياً . . خارق الذكاء. شاهد بنفسه مقتل والده بيد اليهود وهو في الخامسة عشرة من عمره. ففرت به أمه من الرملة الى نابلس في الأردن. وعاش مثل آلاف الفلسطينيين في مخيم بائس يفتقر الى المياه والكهرباء. وفي نابلس أكمل تعليمه وكان دائماً من المتفوقين، لا يأبه بمطاردات الفتيات له برغم وسامته وجسمه الرياضي. فقد كان لا يهتم إلا بالسياسة فقط. وبعدما حصل على الثانوية العامة بتفوق، حصل على منحة للدراسة بالجامعة الأميركية في بيروت، التي كانت مجمتعاً لكبار المثقفين الفلسطينيين.
واكتسب في الجامعة سمة الزعيم السياسي، حيث جمع من حوله الطلبة وألقى فيهم الخطب الثورية، وكان تأثيره يتزايد بينهم بعدما عرف لدى الجميع أن والده مات بين الإسرائيليين.
وكان يقول دائماً "لقد نسونا وإذا لم نفعل شيئاً سنبقى دائماً في الطين والوحل . . أذلاء. . بلا وطن". وتخرج من الجامعة مهندساً ليلتقي بياسر عرفات الذي كان قد أسس منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد هذا اللقاء تبدلت حياته كلها، إذ شغل منصب قائد القوة 17، ثم رئيس المخابرات الفلسطينية - رصد - ورئيس العمليات بمنظمة أيلول الأسود التي دوخت إسرائيل بعملياتها الفدائية المذهلة.
استغل علي حسن سلامة ذكاءه الشديد في تعقب الخونة والجواسيس، الذين يتم زرعهم بين صفوف المقاومة وتمكن من كشف عشرين منهم خلال فترة وجيزة، وحصل على دورات تدريبية على أيدي رجال المخابرات المصرية. إذ استهواه العمل الفدائي والكفاح، وعشق مطاردة عملاء الموساد أينما كانوا. وأفلت مرات ومرات من محاولات فاشلة لاغتياله، حيث كان يجيد التخفي . . ماكر كالثعلب. . جسور كالأسد. . صلب كالفولاذ. وبعدما جاءه البلاغ عن وجود طبيبة عربية متطوعة تعمل لصالح الموساد في بيروت، اكنت أمامه بعد ثلاثة أيام قائمة طويلة تضم أسماء 37 طبيبة. . أربعة منهن فقط حصلن على شهاداتهن العلمية من جامعات النمسا. وكن جميعاً آنسات . . إحداهن بالطبع كانت أمينة داود المفتي.
وفي انتظار التقرير الحاسم الذي سيجيء من أوروبا . . أمر سلامة بوضع الأربعة تحت المراقبة الصارمة طوال الأربع والعشرين ساعة. لقد كان السباق محموماً للوصل الى الحقيقة بأسرع ما يمكن . . وبينما الطقس مشحون بالشكوك والترقب، أحست أمينة بعيني الجاسوسة المدربة، بأن هناك عيوناً ترصدها. . ولا تترك لها مساحة من الحرية لتتحرك بيسر كما اعتادت دائماً. وأول ما فكرت فيه هو التخلص من جهاز اللاسلكي، دليل الإدانة الذي سيقدمها الى حبل المشنقة. فبثت رسالتها الأخيرة الى الموساد : (آر. كيو. أر. هناك من يراقبني ليل نهار منذ الأمس. أنا خائفة ومرتبكة. سأموت رعباً. أفيدوني. نفيه شالوم).
خبراء المخابرات دائماً يشفقون على العميل الخائف، خاصة إن كان مزروعاً ببلاد الأعداء. ويدركون جيداً حجم المعاناة النفسية الرهيبة التي تغشى تفكيره، وقد تقود مسلكه الى نقطة النهاية والسقوط، بسب وقوعه في حالة ضعف تدمر أعصابه، وتعصف بجرأته وبثباته. وهم في تلك الحالات يفضلون أن يفر عميلهم بحياته وبأي ثمن. لذلك ردوا على أمينة بعد أقل من نصف الساعة: (ضعي الجهاز بسلة قمامة الشقة العلوية. إحرقي الشفرة. غادري بيروت بهدوء الى دمشق بطريق البر. ستجدين رسالة بمقهى "الشام".). تنفست أمينة الصعداء، وشرعت فوراً في تنفيذ أوامر رؤسائها.
لقد كان عليها ألا تلتقي بأحد أفراد شبكتها. . لكن يجب تحذيرهم من السعي اليها. لذلك اتصلت من الشارع بخديجة زهران وأخبرتها أنها في طريقها الى دمشق للسياحة