المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سرالحياة .. بقلم د/ مصطفي محمود


طمطم22
06-25-2007, 11:40 AM
تأملات في دنيا الله
ســــــــــــــــــــر الحيــــــــــــــــــــــــاة‏!‏
بقلم‏:‏د‏.‏ مصطفي محمود

http://shabab.ahram.org.eg/Ahram/2002/10/1/sh303_18m.jpgنظرية دارون‏..‏ أصبحت الآن من المعلومات الأولية التي يتعلمها التلاميذ في المدارس الاعدادية والثانوية‏..‏ ومن النكت الدارجة في المجلات ومن الموضوعات الشائعة التي تصاغ حولها القفشات الصحفية‏.‏
إلي هذا الحد أصبحت مادة يومية مسلية‏.‏
ومع هذا فانها لم تكن في نظري أبدا شيئا مسليا‏.‏

ومنذ قرأت لداروين وأنا أسأل نفسي كل يوم‏..‏ هل فسر لنا هذا الرجل سر الحياة حقا‏..‏ وتعالوا معي نتناقش‏.‏
داروين يقول ببساطة‏:‏ إن الكائنات الحية في محاولتها لان تتكيف وتتلاءم مع البيئة‏..‏ طورت أعضاءها لتواجه الاحتياجات المتعددة التي تتطلبها تلك البيئة‏.‏
الحيوانات التي نزلت الماء نشأت لها زعانف وذيول وخياشيم‏..‏ والحيوانات التي اقتحمت الهواء نشأت لها أجنحة وريش وأجسام انسيابية خفيفة‏..‏ والحيوانات التي اختارت الارض لتدب عليها نشأت لها أذرع وأرجل وأصابع‏.‏
وهكذا تعددت الانواع ونشأت تصانيف مختلفة من الحيوانات كل منها مجهز ليواجه بيئته‏..‏ وتطورت الحياة التي بدأت بخلية واحدة تقوم بكل الوظائف الي حيوانات عديدة الخلايا راقية متخصصة‏..‏ ونشأ الحيوان الذي يستطيع أن يواجه بيئته الصعبة المعقدة ويعيش فيها ويصارعها‏.‏
وفي اثناء هذا الصراع الطويل كانت الانواع التي تعجز عن التكيف تموت‏..‏ وكانت الانواع التي تثبت صلاحيتها وملاءمتها تعيش‏,‏ وبهذا قامت الطبيعة بنفسها بعملية اختيار الأصلح والأنسب واستبعاد الأضعف والأقل ملاءمة بدون نظر إلي أي اعتبار آخر‏.‏
ونشأ الانسان في قمة هذه السلسلة الحيوانية وتفوق عليها جميعها‏,‏ وحكمها بفضل قدرته الهائلة علي التكيف‏,‏ وهي القدرة التي زوده بها جهازه العصبي الراقي وعقله الذي دله علي اختراع سبق به كل الحيوانات هو اختراع الادوات‏..‏ فالانسان هو الحيوان الوحيد الذي لاينتظر أن تتطور ذراعه لتصبح في قوة الاسد ليصارعه‏,‏ وإنما هو يخترع الخنجر والبندقية ويضربه‏..‏ وبالمثل لاينتظر أن ينمو له جناح ليطير وإنما يخترع الطائرة‏..‏ ويخترع السفينة‏..‏ ويخترع الغواصة‏.‏
هذا هو كلام داروين‏..‏

وواضح أن الارتقاء والتقدم له في نظر داروين معني واحد فقط هو نشوء أنواع أكثر ملاءمة من أنواع أقل ملاءمة‏..‏ ونشوء أنواع قادرة علي التحكم في بيئتها من أنواع قليلة الحيلة‏.‏
إنها مسألة ارتقاء في القوي المادية لا أكثر ولا أقل‏..‏ والتطور لايحكم اتجاهه إلا هذا الحافز الطبيعي وحده‏.‏
الحياة تتجه إلي مزيد من القدرة‏..‏ مزيد من الكفاءة‏..‏ مزيد من السيطرة علي بيئتها‏.‏
هل هذه هي كل القصة‏..‏ ابدا‏..‏ هناك جانب مهمل تماما في الحكاية‏..‏ فالحياة تتجه ايضا إلي الأجمل‏..‏ فالأجمل‏..‏ وهذه ملاحظة لا وجود لها في نظرية داروين‏..‏ وليس في كلامه مايفسرها‏.‏
لماذا يخرج من عائلة الحمار شئ كالحصان‏..‏ أو من فصيلة الوعل‏,‏ شئ رقيق كالغزال‏..‏ الحصان ليس أكثر احتمالا من الحمار بل هو علي العكس أقل جلدا واحتمالا‏..‏ والغزال بالمثل أضعف وأرهف واقل جلدا واحتمالا‏..‏ والغزال بالمثل أضعف وأرهف وأقل جلدا من الوعل‏..‏ وبالمثل الفراش الملون الرقيق أبطأ وأضعف وأقل قدرة من الزنبور الطنان الغليظ الشكل‏..‏ والحمام واليمام والطواويس والعصافير الملونة‏..‏ اكثر رهافة من الصقور والحدادي والنسور‏.‏
ونشوء هذه الانواع لايمكن أن يفسره قانون بقاء الأصلح‏..‏ وإنما قانون آخر هو بقاء الأجمل‏.‏
أجمل في عين من؟
إنها كانت موجودة قبل الانسان‏.‏
أجمل في عين بعضها البعض؟
وهل يتذوق الحيوان الجمال‏..‏ ويشعر به؟
أم أجمل في عين الخالق الذي أبدعها وتفنن فيها؟
أم هو اتجاه الي الجمال‏..‏ اتجاه مجرد من أي هدف‏..‏ جمال مجرد غير مقصود أن يراه أحد أو يستمتع به أحد‏..‏ جمال من أجل الجمال‏.‏
إن الجمال قيمة مبثوثة في الوجود كله‏..‏ قيمة لاتستطيع نظرية مادية أن تفسرها‏.‏
الوجود الميت فيه جمال‏..‏ والوجود الحي فيه جمال‏.‏
الذرة فيها معمار وهندسة وتوزيع رشيق متوازن للالكترونات والبروتونات‏..‏ والنبات فيه تنوع هائل غني في الزهور والعطور والالوان والاشكال الشجرية الساحرة‏.‏
دراسة عابرة لاوراق النبات‏.‏ تكشف لك عن تصانيف عجيبة وموديلات لا آخر لها غاية في الرقة والذوق كأنها رسمت بيد فنان عبقري‏.‏
وفي الطيور وفي الفراش وفي عالم الحشرات والزواحف والحيوانات المائية والبرية‏..‏ ملايين الاشكال الجميلة الرقيقة التي لايمكن أن تكون قد خلقت من أجل الكفاءة أو الاحتمال أو بقاء الاصلح‏,‏ وإنما هي خلقت من أجل الجمال والجمال وحده‏..‏ فالجناح المنقوش لايمكن ان يكون أكفأ للطيران من الجناح غير المنقوش‏.‏
إنها إذن مسألة جمال‏..‏ شياكة

في الطبيعة قوي تحرص علي تجميل مخلوقاتها مثلما تحرص علي قوة هذه المخلوقات‏.‏
أي قوي هذه التي تؤثر في التطور‏..‏ وتخلق هذه الصور الفاتنة ومادوافعها؟
داروين لايتكلم‏..‏ ونظريته لاتجيب‏.‏
هل هو تطور شبيه بالتطور الذي حدث في فكرة المحرك الآلي‏..‏ والذي انتهي بظهور تصانيف مختلفة من هذه المحركات كالقطار والترام والاتوبيس والتروللي باس والديزل والمحرك النفاث‏..‏ حتي هذه التصانيف رسم لها الانسان هياكل جميلة فيها ذوق وفن‏..‏ ولم يضع في اعتباره مسألة الاحتمال ولا الصلاحية وحدها‏.‏
إن الجمال ملغي تماما من تفكير داروين‏..‏ وكأنما هو شئ لاوجود له‏.‏
داروين يفهم الحياة كمادة ويفسر تطورها بدوافع مادية‏.‏
ولكن الواقع يؤكد في جميع الاحوال شيئا أكثر من هذا‏..‏ فالحياة ليست مجرد مادة مندفعة لتوكيد ذاتها وفرض سيادتها علي البيئة‏.‏ وانما فيها شخصية وجمال‏.‏
والجمال قيمة وليس مقدارا يقدر بالكم والوزن‏.‏

الجمال قيمة مرتبطة بالذات‏..‏ بالروح المدركة‏,‏ ولايمكن فصلها عن الحياة لانها أصيلة فيها‏.‏
وكل نظرية تفسر الحياة كمادة دون أن تفسرها كقيم جمالية هي نظرة ناقصة‏.‏
وأنا لهذا أشك في نظرية داروين وأشك في أنها كشفت لنا كل الحقيقة‏.‏