تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : كل شيء‏..‏ إلي حد ما‏!‏ .. انيس منصور


طمطم22
06-25-2007, 11:46 AM
كل شيء‏..‏ إلي حد ما‏!‏


بقلم‏:‏ أنيس منصور

http://shabab.ahram.org.eg/Ahram/2002/12/1/anees.jpg
أنت عاقل‏..‏ ولاشك‏..‏ أنت تفكر وتدبر‏..‏ وتحسب حساب الغد وبعد الغد‏..‏ وتمشي علي رجليك‏..‏ وعلي الجانب الأيمن من الشارع‏,‏ وحتي لو مشيت علي الجانب الأيسر‏,‏ فأنت تعرف خطورة عبور الشارع‏..‏ عاقل‏...‏ وأنت تقرأ وتكتب وتقول‏:‏ إن هذا يعجبك‏,‏ وهذا لايعجبك‏,‏ عندك أسباب لكل شيء‏..‏ واذا اردت شيئا فأنت لاتخطفه بالقوة‏,‏ وإنما تفكر في وسيلة للحصول عليه‏..‏ بالقانون‏,‏ أي بالعقل‏..‏ بالذوق أي بالعقل‏..‏ أو بالحيلة أي بالعقل‏...‏ كل شيء يدل علي انك عاقل‏!‏
ولكنك تظل تمشي بالساعات في الشوارع بلا هدف واذا توقفت عند احد المحال التجارية‏..‏ فانك تلمح فتاة‏...‏ الفتاة في أصبعها دبلة‏...‏ وصاحب الدبلة ممسك بذراعها الأخري‏..‏ وأنت تمشي وراء الاثنين‏.‏
واذا رأيت العين الحمراء من هذا الزوج‏...‏ فانك تتجه إلي فتاة أخري‏..‏ فإذا جاءت اشارة المرور ومنعتك من اللحاق بها‏,‏ فإنك تقف في طابور طويل أمام باب السينما‏..‏ وكلما اقتربت من نافذة التذاكر‏,‏ عدت إلي آخر الطابور‏..‏ ثم تدخل السينما وتنام‏...‏ مع انك عاقل‏!!‏

ولكن هذه الأفعال لاتدل علي أن العقل الذي كنت تفكر به وأنت تعبر الشارع كالبهلوان بين السيارات‏,‏ قد تعطل أو سقط منك‏...‏ فأنت عاقل ولاشك‏...‏ ولكنك عاقل إلي حد ما‏...‏ تدري ماذا تفعل ولكن إلي حد ما‏..‏
أنت ولاشك تحب زوجتك‏...‏ وأنت لم تضيع وقتك في الشوارع هكذا إلا لأنها قد سافرت إلي أهلها في الريف‏,‏ وأنت تحبها جدا‏...‏ فيوم مرضت في الأسبوع الماضي كنت تجلس إلي جوار سريرها‏..‏ مع ان مرضها عادي جدا‏..‏ ولكنها العشرة الطويلة‏..‏ الحب القديم الذي ولد معكما وانتما صغيران‏......‏ إنها ابنة عمك‏...‏ أو أكثر من ابنة عمك‏..‏ انك تحس انها اختك‏..‏ أو تماما كأختك‏..‏ وهذا مايضايق زوجتك‏..‏ ومايضايقك أنت‏..‏ فأنت تثور علي نفسك وعلي حبك البارد الجامد الذي يشتعل بالنار كلما رأي فتاة في الشارع‏...‏ أو حتي كلما رأي خادمه تنشر الغسيل‏..‏ ولكن هذا القلب يصبح كالقطار عندما يقترب من المحطة‏,‏ وعندما يقترب من زوجتك‏...‏ دقاته منظمة كأنك نائم‏,‏ هادئه كأنك طفل‏..‏ أو كأن أحدا ليس معك‏...‏ أو كأنك أمام أختك أو والدتك‏...‏ فإذا بك تلعن الأيام التي كانت فيها بيوت العائلات تتجاور‏...‏ والأطفال يلعبون في الشارع لعبة العريس والعروس‏....‏ فهي عروسك منذ طفولتك‏..‏
فأنت تحبها‏..‏ وتلعنها‏..‏ وتثور عليها‏.‏

اذن فأنت تحبها إلي حد ما‏..‏ وهي أيضا تحبك إلي حد ما‏...‏
وعندما تهرب من البيت إلي المكتب‏..‏ يصبح الأتوبيس كسفينة الحجاج‏..‏ وكأنك في طريقك إلي مكان مقدس‏....‏ كل شيء هناك مليء بالناس والأوراق‏..‏ والسعاه يقفون منزعجين عند رؤيتك‏..‏ كأنهم كان لابد ان ينتبهوا لمجيئك منذ خرجت من البيت‏..‏ كأنهم فوجئوا بتشريفك الذي يحدث كل يوم وفي هذه الساعة المبكرة‏..‏ وأنت سعيد بهذا الاستقبال الكاذب‏..‏ وتجلس علي مكتبك وتشم رائحة التراب‏,‏ ورائحة الورق والسجائر الخامدة والشمس الكسول وهي تكدس الذباب حولك‏..‏ ولكنك لاتهتم بهذا كله‏,‏ وتمد يدك الي ورقة ملفوفه أمامك وتلتهم سندويتش فول وطعمية‏.‏ مع أنك رفضت ان تذوق هذا الفول في البيت‏..‏ فأنت تحب عملك‏...‏ وتحب مكتبك وتراب مكتبك والسعاة الواقفين علي باب مكتبك‏,‏ ووراء باب مكتبك تجلس أنت تطلب من الله أن يريحك من بيتك‏,‏ كل من في بيتك‏.‏
ولكن حبك لهذا المكتب ومافيه من تراب وورق وذباب وسعاه وساندويتشات ليس حبا ثابتا‏..‏ إنه إلي حد ما‏..‏
فمنذ علمت ان دورك في الترقية لم يأت بعد‏..‏ ماذا فعلت‏..‏ لم تجلس علي مكتبك‏,‏ لم تمسك ورقة‏,‏ لم ترفع عينيك في مواطن جاء إليك‏,‏ لم تهتم بساع واحد وقف لك‏..‏ اتجهت إلي بيتك‏...‏ ونزعت ملابسك‏..‏ وفي البلكونة رحت تملأ صدرك بالهواء‏...‏ وكانت زوجتك سعيدة بعودتك‏..‏ ولم تشأ ان تسألك‏..‏ فقد كان ذلك اليوم هو يوم الخميس‏...‏ ليلة الجمعة‏.‏
فأنت تحب مكتبك إلي حد ما‏..‏ وتكره بيتك إلي حد ما‏.‏

ولكنك مع ذلك لست ساخطا تماما‏....‏ وإنما إلي حد ما‏!‏ ففي كثير من الاحيان يري الناس السعادة علي وجهك‏..‏ أنت الآن في الأربعين‏..‏ وليس علي وجهك علامة واحدة‏..‏ لاتوجد تجاعيد حول عينيك ولافي جبهتك‏..‏ وبشرتك متوردة‏..‏ وعيناك لامعتان وابتسامتك مجلجلة‏..‏ ولاتزال أسنانك سليمة أغلبها‏..‏ علي الأقل لم تضع طاقما بعد‏..‏ فأعصابك هادئة‏..‏ أو مستريحة‏..‏ ولكن هذا الهدوء إلي حد ما أيضا‏.‏
ففي بعض الأحيان عندما تمشي في الزمالك‏....‏ وتري سيارة فخمة فإنك تتطلع إليها‏..‏ إلي رقمها‏..‏ كأنك تعرف أحدا يملك مثل هذه السيارة‏...‏ أو كأنك تمارس هواية الفقراء‏.‏ وهي حفظ ماركات السيارات‏...‏ وتنتقل من آخر الشارع إلي حيث تقف السيارة‏..‏ وكأي طفل صغير تلمس السيارة بيدك‏..‏ ثم تضغط عليها بأظافرك‏..‏ كأنك تريد أن تشوهها‏..‏ أن تحطمها‏..‏ أن تحطم ولو جزءا صغيرا منها‏..‏ فأنت اذن ساخط إلي حد ما‏..‏ وأنت حاقد إلي حد ما‏..‏
وعندما تجد إلي جوار السيارة شيخا يتسول‏..‏ فإن يدك تسرع إلي جيبك ولاتجد فكه‏..‏ فتعطيه الخمسين قرشا التي رفضت ان تعطيه لأحد ابنائك في الصباح‏.‏
فأنت اذن تحب ابناءك إلي حد ما‏..‏ وانت لست ساخطا علي كل الناس‏...‏ وإنما علي أصحاب السيارات الفخمة‏,‏ إلي حد الخربشة أي إلي حد ما‏..‏

وأنت مؤمن بالله‏..‏ ومؤمن بقضائه‏..‏ وقدره‏..‏ وكثيرا ماتردد‏:‏ ان الخير هو مااختاره الله‏..‏ وكثيرا ماتردد‏:‏ لو اطلعتم علي الغيب لاخترتم الواقع‏..‏ وكثيرا ماتقول‏:‏ الجنة تحت أقدام الأمهات‏..‏ لاشك أنت مؤمن‏..‏ وانت تصلي معظم الأحيان‏..‏ وأنت تصوم في غالب الأحيان وأنت تزور قبر والديك‏..‏ وتترحم عليهما‏..‏ وقد رآك بعض الناس وأنت تبكي‏..‏ وفي الحقيقة أنت بكيت عندما تذكرت كيف كانت حياة والديك‏..‏ وانك وعدت الله ألاتكرر حياة والديك‏..‏ والا تكرر نفس العذاب‏,‏ فتكون أبا كوالدك‏,‏ وتكون لك زوجة كأمك‏,‏ ويكون هناك أولاد مثلك‏..‏ ويكفرون بالأبوه والأمومة‏,‏ والحياة العائلية لقد وعدت بهذا كله‏..‏ ومع ذلك تزوجت‏..‏ فأنت تحب والديك إلي حد ما‏...‏ وأنت تكره اسرتك إلي حد ما‏...‏ ولكن هذا الحد ما قد زاد‏...‏ وكل يوم يزداد‏..‏ والنار تشتعل بينك وبين زوجتك‏...‏ وأولادك يتفرجون تماما كما كان يحدث بين والدتك وأبيك‏..‏ وكنت تحتار أيهما علي حق‏..‏ هذا ابوك‏..‏ وهو طيب ومسكين ومريض وهذه أمك وهي مريضة ساذجة وهي مكافحة أيضا‏...‏ انهما يتضاربان بكلام كالرصاص‏,‏ وبنظرات كالنار‏,‏ وبدموع تغلي‏..‏ والفقر يفتك بهما وبك وأخوتك‏,‏ والمرض يهلك الأب ويحطم الأم وكل يوم تشتعل النار‏,‏ وكل يوم تسقط الأم علي الأرض‏,‏ وإلي جوارها يسقط الأب‏...‏ وفي ذلك اليوم حملت الاثنين إلي الفراش‏..‏ وعلي مقعد إلي جوارهما جلست وارتفع صوت يعلن طلوع النهار‏,‏ وارتفعت مع صوته يداك تقول‏:‏ يارب إلا هذه الحياة‏..‏ أي شيء إلا أن اكون أبا‏..‏ أي شيء يارب‏!!‏
واختار الله لك ان تكون أبا‏...‏ وضقت ـ استغفر الله ـ بمشيئة الله‏..‏ وربما كان هذا هو السبب في انك لاتصلي دائما ولاتصوم غالبا‏..‏
فأنت مؤمن إلي حد ما‏..‏ مستسلم لارادة السماء إلي حد ما‏..‏

وأنت رجل‏.‏ طبعا ليس من الضروري ان يكون كل أب رجلا‏.‏ ولا كل زوج رجلا‏.‏ ولكنك رجل إلي حد ما‏..‏ فالرجولة مائة في المائة غير موجوده‏..‏ والأنوثة مائة في المائة لاوجود لها‏..‏ ولكن نسبة الرجولة فيك عاليه‏..‏ فمعني ذلك انك رجل إلي حد ما‏..‏ وانثي إلي حد ما‏..‏ فأنت تحمل مسئولياتك بلا شكوي‏..‏ إلي الله‏..‏ والشكوي لله‏,‏ ليست شكوي‏..‏فهذا طبيعي ان يشكو المؤمن لربه كذلك ولكنك لاتشكو في نهاية الشهر‏..‏ ولاتشكو وأنت تعاون بنات خالتك ولاتشكو وأنت تدفع أموالا‏..‏ وان كانت ضئيلة ـ إلي أبناء اخوتك‏..‏ ان زوجتك لاتعرف شيئا من هذا كله‏..‏ وأنت لاتشكو‏..‏ فالأموال تنزل من بين أصابعك‏..‏ كعرق جبينك‏..‏ قليلة ولكنها تتساقط‏..‏ وأنت رجل لأنك تضحي بالكثير من أجل غيرك‏..‏ ان زوجتك مريضة منذ سنوات‏..‏ وكان في وسعك ان تتزوج غيرها وهي التي طلبت منك ذلك‏..‏ ولكنك لم تفعل‏..‏ ان كراهيتك لابنة عمك وزوجتك أم أولادك‏,‏ إلي حد ما‏..‏ وهذه رجولة‏..‏ فأنت رجل ولاشك‏,‏ ولكنك رجل إلي حد ما‏..‏
فأنت تقف امام المرآة طويلا‏..‏ وأنت اشتريت صبغة سوداء للشعرات البيضاء التي ظهرت علي جانبي الرأس‏..‏ وعندك فرشاة لتنظيف أظافرك‏...‏ والوان كرافتاتك فاقعة‏...‏ لاتتناسب مع سنك ولامركزك‏..‏ واستخدام العطور والبريانتين‏,‏ واستخدام البودرة باسراف في عنقك وصدرك‏..‏ والخادمة قد اكدت لزوجتك التي لاتصدق إنك وقفت عاريا ورحت تغرق نفسك بالبودرة‏...‏ لاأحد يصدق‏..‏ ولكنه حدث‏..‏ مع انه لاتوجد في حياتك امرأة أخري‏..‏ ولكن المرأة التي في حياتك‏,‏ هي الأنثي التي في شخصية كل رجل‏...‏ والتي تظهر فيه عادة عند الأربعين‏...‏ فأنت أنثي إلي حد ما‏..‏ ورجل إلي حد ما‏..‏
وأنت صبور أيضا‏..‏

والا ماوصلت إلي هذا المكان من كلامي‏..‏ وأنت يسهل خداعك أيضا‏..‏ فأنت تصورت انك ستصل إلي شيء من هذا الكلام‏...‏ وان كنت قد لاحظت انك كنت تقفز فوق السطور‏..‏ ولاتعبر علي السطر من أوله إلي آخره‏..‏ ولذلك فأنا أري انك صبورإلي حد ما‏..‏ وأنت أيضا لايسهل خداعك فأنت منذ السطور الأولي ادركت انك لن تصل إلي شيء‏,‏ وإنما الذي دفعك إلي قراءة كلامي هذا هو العادة‏..‏ فقد تعودت مني أن أقول لك كلاما له معني‏..‏ له أول وله آخر‏..‏ وأنا خذلتك هذه المرة‏..‏
الحقيقة انني لم أخذلك تماما‏,‏ إنما إلي حد ما‏...‏ فكل شيء في الدنيا هو إلي حد ما‏..‏لاصدق‏..‏ لاكذب‏..‏ ولاحب‏..‏ ولاكره‏..‏ ولاايمان ولاكفر‏...‏ ولاحياة ولاموت‏...‏ ولانهاية ولابداية‏..‏ إنما كل شيء إلي حد ما‏..‏