المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفستان .. مصطفي محمود


طمطم22
06-25-2007, 08:48 AM
الفستــــــــــــــــــــــان‏!‏


بقلم‏:‏ د‏.‏ مصطفي محمود

http://shabab.ahram.org.eg/Ahram/2002/12/1/mostafa.jpg
كان الرجل ينادي علي المزاد بصوت جهوري والعيون من حوله تحملق في المعروضات‏.‏
فستان الأميرة جلبهار مطرز بالألماس والياقوت والفيروز‏,‏ كرسي فوتيل موديل لويس الرابع عشر‏..‏ سرير بظهر منجد كابتونيه بلوحات من الحرير الملون‏..‏ فازة سيراميك بلجيكي عليها صورة الامبراطورة كاترينا‏..‏ تحف قصر صاحبة الفخامة الأميرة جلفدات هانم‏.‏
وجلجل بالجرس‏.‏

نبدأ المزاد علي الفستان‏..‏ السعر الأول الف جنيه‏..‏ الف جنيه‏..‏ مين يزود‏..‏ الف جنيه فستان الأميرة‏..‏ الا أونا ألا دويا‏..‏ ألا تريا‏..‏
وتقدم خبير في المجوهرات وبدأ يفحص الفصوص علي صدر الفستان وأكمامه‏,‏ ويحملق فيها بعدسة مكبرة ويهز رأسه ويمصمص شفتيه‏.‏
وتصاعدت الأرقام الي ألف وخمسمائة‏..‏ ألفين‏..‏ ثلاثة آلاف‏,‏ ثلاثة آلاف وخمسمائة‏,‏ أربعة آلاف‏,‏ اربعة آلاف وخمسمائة‏.‏ خمسة آلاف وخمسمائة‏.‏
وظل السمسار يقرع الجرس وينادي‏.‏

خمسة آلاف وخمسمائة ـ خمسة آلاف وخمسمائة‏.‏ وقام رجل من الحضور‏..‏ عجوز‏..‏ عجوز مقوس الظهر مثل جميزة عتيقة يتوكأ علي عكازين‏,‏ ويسعل ويبصق ويمسح علي نظارة سميكة مثل المونوكل‏..‏ وتقدم من المنصة وكتب شيكا بستة آلاف جنيه‏,‏ وأخذ الفستان وحمله في احترام وتقديس كأنه يحمل مصحفا‏,‏ وتابعته أنظار الموجودين وهم يتوقعون ان يكون صاحب الرولزرويس الخضراء التي يقف علي بابها سائق في زي رسمي‏,‏ أو أن يكون صاحب العربة الليموزين السوداء المكتوب عليها سلك دبلوماسي‏..‏ ولكنه فاجأ العيون بدخوله في تاكسي قديم متهالك ينتظره أمام الباب‏.‏
وسار التاكسي يكركر وينفث الدخان الأسود‏,‏ ويتوقف مثل دابة نفقت علي الطريق الزراعي‏,‏ ثم يعود فينطلق بعد حشرجة‏.‏
ودخل التاكسي في شارع كبير واسع ثم في شوارع أضيق ثم في حارة ثم في زقاق مسدود‏.‏
وخرج العجوز يترنح بعكازيه ومن خلفه السائق يحمل له الفستان‏.‏
واختفي الاثنان في بيت قديم‏.‏

وفي غرفة صغيرة علي السطح كان العجوز ينقد السائق أجره ثم يغلق الباب ويحمل الفستان في احترام وتقديس‏,‏ ويمدده علي الفراش وينحني عليه يقبله في كل شبر‏,‏ ويبكي ويتهدج كطفل ويشم اعطاف الفستان ويهمس‏:‏
ـ حتي رائحة الروز‏..‏ مازالت في فستانك ياجولي‏..‏ ياأحب من أحببت في دنياي‏.‏
وكان ينفل البصر بين الفستان وبين صورة كبيرة علي الحائط للأميرة جلبهار أو جولي‏,‏ كما كان يدعوها وكان يكلم الفستان وكأنه يكلمها‏.‏
ـ ماأسعدني وأنا أشتري لك الفستان للمرة الثانية وأقدمه لك للمرة الثانية ياجولي‏.‏
ياإلهي‏..‏ ماأعجب ماكان يفعل بنا الضعف‏..‏ فنتحول إلي اطفال نأثم في براءة‏.‏
كان ذلك منذ ثمانين عاما‏..‏ وكنا حينذاك سادة الدنيا وأهل الوقت‏.‏

أتذكرين المرة الأولي التي قدمت لك فيها هذا الفستان هدية‏..‏ كان ذلك في عيد ميلادك العشرين‏..‏ وفي باريس‏..‏ وكنا نرتب للزواج‏..‏ وكان كل شئ جميلا ورائعا‏,‏ وكنت من فرط نشوتي بك لاأدري في أي مكان انا ولا في أي زمان ولا في أي عصر‏..‏ كان المكان والزمان هما أنت‏..‏ كانت باريس هي أنت والوقت هو حضورك‏..‏ وكان المكان يختفي والزمان يتوقف حينما تنصرفين‏.‏
ياإلهي ماأعجب ماأودعت في الحب من أسرار‏.‏
أتصدقين ياجولي لو قلت لك إني كنت أشعر إني أعيش في الغيب‏,‏ لاأحضر في الدنيا حتي تناديني عيناك فأحيا وأتنفس‏,‏ وآكل وأشرب وأحب وأرغب‏,‏ وأشعر بنفسي عارمة بين جنبي حتي تفارقيني فتفارقني الروح وأعود عدما غائبا مغيبا كما كنت‏.‏
آه‏..‏ كم أحببتك لدرجة المرض والأزمة‏.‏

وكم قتلني هؤلاء الذين دخلوا بيننا‏,‏ ووضعوا بين يديك هذه الخطابات عن العلاقة القديمة التي كانت في حياتي‏..‏ ولم تكن شيئا يذكر‏..‏ بل كانت امرا تافها وماضيا لا وزن له‏.‏
ولكنك اشتعلت نارا وظننت الماضي حيا وباقيا وأقسمت أن تتزوجي الرجل الآخر لتعاقبيني‏...‏ وقد عاقبت نفسك معي وقتلت نفسك معي‏...‏
وبدأ الليل الطويل الذي استمر ثمانين عاما يخيم علي حياتنا‏,‏ وفي أثناء هذه الأعوام الثمانين قامت ثورات وحروب وانقلابات‏,‏ وانطلقت مدافع وهتافات ورشاشات وتشرد ملوك وسجن أمراء‏,‏ وطرد أصحاب قصور إلي العراء‏,‏ وتدلي من أعواد المشانق أناس كانوا بالأمس في عزة السلطان‏.‏
فهل تصدقينني ياجولي إني لم أكن أسمع من ضوضاء التاريخ التي كانت تقصف في الخارج إلا حفيف ثوبك‏.‏ حفيف ثوبك في ذلك المساء وأنت تختلسين إلي الخطي وأنهار الدموع تغطي خديك‏,‏ وأنت تهمسين بصوتك المتهدج في تلك الدقيقة الخاطفة التي التقينا فيها‏,‏ وكأننا قطاران يصفر كل منهما ليمضي في طريق مضاد‏...‏
وأذكر كل كلمة ومازلت أسمعها تأتي إلي أذني مبللة بالدمع‏.‏

لقد أخطأت يامراد وقتلت نفسي‏.‏
أحبك ولا أمل‏.‏
أراك دائما في كل شيء حتي في عيون أولادي حتي في فراش زوجي‏.‏
لم أستطع الثورة علي حقيقتي فغلبت الحقيقة علي كل شيء ولونت كل شيء‏.‏
وداعا ولا وداع‏,‏ فأنا أحملك معي حيثما ذهبت تحت جلدي وفي دمي‏.‏
وصفر القطاران ومضت كل حياة في اتجاه‏.‏
وشعرت كأنما أنسلخ من نفسي وأمضي في اتجاهين في وقت واحد‏.‏

وامتدت هذه اللحظة الحافلة بالمشاعر‏,‏ وتشخصت فأصبحت كل حياتي وغرقت كل حوادث التاريخ وضوضاء الانقلابات والثورات‏,‏ وبهتت وارتدت الي الخلفية البعيدة فأصبحت ستارا شبحيا خافتا ترتسم عليه صورتان كبيرتان أنا وأنت‏.‏ ولم أهتز كثيرا حينما صودرت أملاكي‏,‏ ولم أمت حينما وضعت أموالي تحت الحراسة فقد سلخت جلدي فماذا يهم أن أخذ أحدهم ثوبي والآخر حافظتي‏..‏ وماذا بعد سلب الروح والأحشاء‏..‏ ماذا يهم الرداء‏.‏
ولهذا فحينما فكت الحراسات وعادت إلي بعض أموالي وجدت نفسي أسعي إلي فستانك لأشتريه مرة ثانية‏.‏ وأهديه إليك مرة ثانية وأمرغ أنفي في أعطافه وأشم فيه عمري‏.‏
وماذا تهم النقود لرجل في سني فقد أسنانه وسمعه وبصره وساقيه‏..‏ ماذا تساوي‏.‏
وهل أنا إلا حبك‏.‏

صدقيني ياحبيبتي أن عند الله لحظة يؤيدها في كتابه ويهتز لها عرشه‏..‏ هي لحظة فراق حبيبين‏.‏
إنها لحظة كانشطار الذرة أحيانا يحجب صوتها ضوضاء التاريخ كله‏,‏ وتتشوه بسببها الأجنة في الأرحام‏.‏ ويتلوث الماء والهواء والبحر والطعام والحياة‏.‏
وذلك يحدث عند أهل القلوب
وأهل القلوب ليس لهم طبقة‏.‏
إنما صادف أن كنت حفيدا لإقطاعي‏.‏
وذلك أمر لم يتجاوز اسما في بطاقة‏.‏

ولكن حقيقتي التي لم يعرفها أحد‏...‏ إني رجل أحب‏...‏ وإن ثروتي الوحيدة التي حرصت عليها كانت حبك‏...‏ فلما ضاعت لم أشعر بأي شيء ضاع بعد ذلك‏.‏
جولي‏..‏ ياابنتي‏...‏ ياأمي‏...‏ ياوطني‏..‏ ياغرفتي الخاصة‏...‏ ياوسادتي‏...‏ ياسري الحميم‏...‏ خذي فستانك من اليد التي أحببتها هدية للمرة الثانية‏..‏ وإلي أن نلتقي لك الروح والفؤاد‏...‏