المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : واحد من الملائكة .. احمد رجب


طمطم22
06-25-2007, 12:28 PM
واحد من الملائكة




http://shabab.ahram.org.eg/Ahram/2003/2/1/ragab.jpg

بقلم : أحمد رجب



شكت لي مديحة أن طفلنا الصغير كريم ناقم علي مقدم شقيقته الوليدة إلي الدنيا‏,‏ إذ بدأ يشعر أنها تسرق منه الاهتمام‏,‏ فازداد نشاطه العدواني وهو يحاول إعادة نفسه إلي دائرة الضوء وإثبات الذات واجتذاب الأنظار إليه‏.‏

ولم أكن متفقا مع مديحة في وجهة نظرها عن كوكي‏,‏ فإني أعرف كيف تبالغ في حكاياتها خصوصا عندما تروي لأمها عني في ساعات الغضب‏,‏ فقد قالت مرة مثلا وهي تبكي‏:‏ إن شخيري الرهيب أثناء النوم حرك كوب الماء الفارغ من حافة الكومودينو بجواري فهوي الكوب الي الأرض‏,‏ وأيدت روايتها بتسجيل أشك في أنه لمخلوق آدمي‏,‏ إذ ما إن أدارت التسجيل حتي اهتز زجاج النوافذ بشدة‏.‏

ثم إن مديحة تريد أن تعامل كوكي كإنسان عاقل رشيد وليس طفلا لم يكمل بعد الخامسة من عمره فهي تستنكر شقاوته الطفولية‏,‏ وتعتبر رواياته عن مغامراته في مصارعة الأسود والنمور مؤشرات مؤسفة تدل علي أنه ورث الكذب عن أبيه‏.‏

ولأنني أشعر بضعف غريب حيال طفلي‏,‏ فقد أصبح كوكي‏.‏ شديدالتعلق بي‏,‏ حتي انه ظل حزينا وغاضبا عندما داهمتني الأنفلونزا‏,‏ إذ اعتقد أنني ألزم الفراش لأنني أنا الآخر أنجبت مولودا أخفيه بجواري تحت الأغطية‏.‏

قلت لكوكي‏:‏ إن الرجل لايلد‏,‏ فسألني الولد‏:‏ وهل أنت رجل؟

قلت له‏:‏ إن كل أب رجل وكل أم امرأة‏,‏ فعاد يسأل‏:‏ ولماذا لايلد الرجل؟ أنت تري فمي مشغولا بأكل برتقالة ولا أستطيع الرد‏.‏ قال الولد‏:‏ بدلا من أن ترد بأن فمك مشغول أجبني لماذا لايلد الرجل؟

قلت متهربا‏:‏ قلت لك إن فمي مشغول‏,‏ وعلي العموم سوف أجيب عن سؤالك هذا عندما تصبح كبيرا‏,‏ فأبدي الولد دهشته وهو يقول‏:‏ وهل ستظل تأكل هذه البرتقالة إلي أن أصبح كبيرا؟؟

غيرت موضوع الحديث ووعدت كريم بأن نقوم برحلة معا في نهاية الأسبوع لزيارة جدته إن هو أثبت أنه طفل مطيع‏.‏ سمعتني مديحة وهي تدخل الغرفة فقالت تكمل عبارتي‏:‏ ويثبت أيضا أنه يعتمد علي نفسه في أكله ولبسه‏.‏
فقد فشل كوكي في تقطيع شريحه اللحم إلي قطع صغيرة كما تأمره أمه في كل مرة نجلس فيها إلي المائدة‏.‏ وهمس الولد في أذني بعد أن خرجت أمه من الغرفة‏:‏ لماذا لاتشتري ماما لحما حقيقيا كالذي آكله مع طارق عند خالتي؟؟ فلما أكدت لكوكي أن اللحم حقيقي ذكرني بقطعة اللحم التي أفلتت من تحت السكين طائرة من طبقي وأنا أحاول تقطيعها‏,‏ ثم اختطفتها القطة تحت المائدة‏,‏ ولم أشأ أن أذكر الولد بأن القطة ـ منذ ذلك اليوم ـ اختفت من البيت ولم تعد‏.‏

فجأة دخلت مديحة الغرفة ولم تعجبها بلاهتي وأنا أرتدي القميص بالمقلوب‏.‏ ظهر القميص فوق صدري بينما امتدت يداي إلي الخلف محاولا ربط ازرار القميص‏,‏ فقد استجبت إلي الولد عندما أحضر قميصي وطلب أن أرتديه بهذه الصورة ظنا مني أنني أرضيه بهذه اللعبة‏,‏ لكن ما أن رأي أمه تدخل الغرفة حتي صاح مشيرا نحوي انظري إلي دادي‏..‏ إنه لايعرف كيف يربط أزرار القميص‏..‏ فكيف تريدين مني أن أعتمد علي نفسي في ارتداء مريلة المدرسة وكل أزرارها في الخلف‏.‏
لقد انتهي هذا الموقف بمحاكمة عسيرة لي عندما انفردت بي مديحة‏,‏ فلو أنني كنت قد أحسنت ربط أزرار القميص وأنا أرتديه بالمقلوب لما وجد هذا الولد الفرصة لكي ينتصر عليها‏.‏ وأصرت مديحة في نهاية المحاكمة علي أن أتدرب علي لبس القميص بالمقلوب وربط أزراره حتي أصبح قدوة للولد وأفسد حجته بشأن الاعتماد علي نفسه في ربط أزرار مريلة المدرسة‏.‏

قال لي كوكي ونحن في الطريق الي جدته‏:‏ هل أقول لك شيئا ولا تخبر ماما؟؟ فوعدته بأن أكتم السر‏,‏ وهنا وقف علي كرسي السيارة ووضع فمه علي أذني يهمس بالسر‏:‏ لقد رأيتك بالامس وأنت تلبس القميص بالمقلوب وماما غاضبة لانك لم تعرف كيف تربط أزراره‏.‏
وصفق كوكي بيديه فرحا وهو يضحك بينما انا في ارتباك حقيقي‏,‏ ولم أجد ما أقوله الا ان مد اليدين الي الخلف لربط الازرار يقوي عضلات الذراعين‏,‏ وأضفت قائلا دعني أري عضلاتك‏:‏ فأسرع كوكي يكشف عن ذراعه في سعادة بالغة وهو يشيد بقوته الخارقة‏,‏ ثم بدأ في سرد قصصه الخيالية التي تثير ثائرة والدته‏,‏ غير أني تركته ينساق وراء خيالاته حتي ينسي القميص الذي رآني أتدرب علي لبسه بالمقلوب‏,‏ وأفقت من شرودي لاسمع كوكي يروي كيف قهر الاسد تابو وجره من ذيله ثم خلع أسنانه‏.‏

قلت له‏:‏ ولكن تابو هو كلب صديقيك أيمن وسامح ابني الجيران‏,‏ وهو كلب لطيف وادع‏,‏ وتذكر ياكوكي اننا رأينا معا الاسد في حديقة الحيوان‏,‏ وهو يختلف تماما عن شكل الكلب تابو‏.‏
سكت كوكي برهة ثم سألني‏:‏ هل رأيت الاسد وهو يمشي في الشارع؟ قلت‏:‏ كلا ياكوكي‏..‏ انا لم أر الأسد إلا داخل قفصه‏.‏ قال كوكي‏:‏ الاسد عندما يخرج من قفصه وتقابله في الشارع يصبح شكل تابو تماما‏..‏ وانا قابلت الاسد في الشارع‏.‏

وجدتني أضحك لان الولد أوقعني في مصيدة يتحتم معها أن أستسلم لروايته دون تكذيب‏,‏ ثم قلت له‏:‏ إنني لا أحب الاعتداء علي الحيوان‏,‏ وعندما أصحبك إلي السيرك كما وعدتك فسوف تجد أن كل الحيوانات لطيفة وظريفة وممكن أن تكون صديقة للإنسان حتي الأسد والنمر‏,‏ وأنا أعرف أنك قوي ولك عضلات عظيمة ياكوكي‏,‏ لكني أرجو أن تستخدم هذه العضلات في مساعدة الضعفاء‏,‏ قال الولد مقاطعا‏:‏ أنا مستعد لمساعدتك يادادي‏.‏ خطر لي علي الفور أن الولد يراني ضعيفا ويتطوع لمساعدتي ضد أمه‏,‏ لكنه أضاف وهو يمسك بعضلات ذراعه‏:‏ أنا أضرب من يضربك يادادي‏..‏
لماذا يراني الولد ضعيفا؟ لا أدري‏.‏

شرحت له أن الاعتداء علي الناس ليس بطولة‏,‏ لكن البطولة هي أن ينقذ إنسانا من الغرق أو الحريق مثلا‏,‏ ولذلك فليس من البطولة أن يعتدي كل يوم بالضرب علي أيمن توءم سامح بسبب الكلب تابو‏..‏ قال كوكي‏:‏ إنه يحب أيمن وسامح معا‏,‏ غير أنه لابد أن يضرب أيمن لكي يحدث علامة في وجهه حتي يمكنه التفرقة بين التوءم‏.‏
أبديت دهشتي في استنكار لهذا التعليل الغريب‏,‏ فاستدرك كوكي يقول‏:‏ إنه لا يضرب أيمن دائما وإنما يفضل في أحيان كثيرة أن يعض أذنه حتي تترك أسنانه علامة واضحة تميزه عن سامح‏.‏

وطالت مناقشتي معه بشأن أيمن وسامح‏,‏ فأوضح كوكي ما عناه أنه قد استنفد الأساليب السليمة في التفرقة بين التوءم‏,‏ وأنه في البداية كان يسأل كلا منهما أن يعلن عن اسمه‏,‏ فكانا يجدان متعة في تضليله‏,‏ لكن أيمن ألقي بالوردة‏,‏ وانتهت المناقشة مع كوكي بسؤال من جانبه‏:‏ دادي‏..‏ كيف يمكنك أن تفرق بين أيمن وسامح دون أن تعض أذن أيمن؟
سرحت أسائل نفسي‏:‏ كيف يمكن حقا لكوكي أن تتوافر له وسائل التمييز بين توءم لهما نفس الملامح والشعر والتسريحة والملابس دون أن تكون لأحدهما علامة مميزة؟؟ هل أتلمس بعض العذر للولد الذي لاقي عقوبات بدنية متعاقبة من أمه بسبب عدوانه علي أيمن؟ إن كوكي يمتلك منطقا‏-‏ كمعظم الأطفال‏-‏ نرفضه بجهل‏,‏ ربما لأننا لا نمتلك حياله منطقا في وجاهته‏.‏ إننا لا نقدم لهؤلاء الأطفال المنطق البديل والمقنع اكتفاء منا بفرض الأوامر والنواهي‏.‏

أفقت من خواطري علي صوت كوكي يقول‏:‏ دادي‏..‏ هل أنت غاضب مني لأنني أضرب أيمن؟

قلت له‏:‏ أنا لا أحب أن أري إنسانا يضرب إنسانا لأي سبب ولهذا يعتبر القانون الضرب جريمة عقوبتها الحبس‏.‏

قال كوكي‏:‏ الضرب جريمة؟

قلت‏:‏ طبعا‏.‏

قال‏:‏ ولماذا تضربني أمي؟؟

تجاهلت سؤاله الصعب المفاجيء وقلت له‏:‏ إنني لا أحب أن يعتدي علي من هو أصغر منه‏,‏ فليس من الشجاعة أن يضرب أيمن‏,‏ لكن كوكي استنكر هذا الاتهام وقال‏:‏ إنه يضرب طارق ابن خاله وهو أكبر منه‏.‏

وقلت لكوكي في نبرة هادئة‏:‏ إنني لا يعجبني افتخاره بضرب الآخرين صغارا أو كبارا‏,‏ فأكد كوكي‏:‏ أنه لا يضرب طارق إلا عندما يجتمعان معا عند جدته لأمه‏,‏ فالجدة توزع عليهما الحلوي بالتساوي‏,‏ لكن هذا يغضب كوكي الذي يري أن يكون نصيبه أكبر وقال تفسيرا لذلك ما معناه‏.‏ إن طارق ولد قبله بسنتين وأخذ من جدته كثيرا من الحلوي قبل مولد كوكي‏,‏ غير أن الجدة لا تعدل بينهما ولا تعطيه ما فاته من حلوي قبل مولده‏,‏ ولهذا فهو يأخذ نصيبه الضائع من طارق بالقوة‏.‏

لم أجد ما أقوله للولد سوي أنني سوف أعوضه عما فاته من حلوي جدته قبل مولده بشرط أن يتخلي عن فكرة ضرب طارق لأنها فكرة الشيطان والشيطان شرير‏,‏ فوقف كوكي فوق مقعد السيارة يؤكد في حماس‏:‏ أن ضرب طارق فكرته هو وليست فكرة الشيطان‏.‏ وما لبث أن تثاءب ونام قابعا إلي جواري كالملاك‏.‏

في بيت أمي علي الشاطيء‏..‏ جاء شقيقي الأصغر لزيارتنا وأقبل نحو كوكي يسأله مداعبا‏:‏ من أنا ياكوكي وما اسمي؟ فرد عليه كوكي قائلا في دهشة‏:‏ رجل كبير مثلك ولا يعرف اسمه؟؟ وأغرق الولد في الضحك ساخرا من عمه‏.‏ ورغم هذه التصرفات وغيرها‏,‏ فقد أسعدني كثيرا أن كوكي أثمرت فيه نصائحي الهادئة‏,‏ وبدأت قصصه الخيالية تتحول من مغامرات المواجهة مع الاسد تابو إلي قصص عن إغاثته للضعفاء‏.‏ غير أن القصة التي أقلقتني هي تلك التي حكاها‏-‏ وهو يمسك بمايوه نسائي‏-‏ عن بطولته في إنقاذ صاحبة هذا المايوه من الغرق‏!‏
‏-‏ ومن أين جئت بهذا المايوه

‏-‏ أخذني كوكي من يدي ومضي بي علي طول الشاطيء الهاديء‏,‏ ثم أشار إلي موضع عثوره علي المايوه‏,‏ وأيقنت أنه لإحدي السائحات التي كن يملأن الشاطيء في الصباح‏,‏ ربما طار منها أثناء تجفيفه‏.‏
عندما عدت من عملي بعد تلك الإجازة القصيرة كان كوكي يمسك بالمايوه ويشرح لأمه كيف كانت صاحبة المايوه تسبح مع دادي الذي كان يعلمها العوم‏,‏ وكيف أن دادي فشل في إنقاذها عندما بدأت تغرق فتولي كوكي أمر إنقاذها‏.‏

القصة الوحيدة التي صدقتها زوجتي‏..‏ لأن كوكي في رأيها ملاك طاهر لا يكذب‏!