طمطم22
06-25-2007, 12:38 PM
لمــــــــــاذا يكرهـــــــــوننـــــــــا ؟!
بقلم: أنيس منصور
http://shabab.ahram.org.eg/Ahram/2003/3/1/anees.jpg
العالم كله يتفرج علي عجائب الصناعات اليابانية ويريد أن يفهم.. أو أن يعرف سر هذه العظمة العلمية والصناعية.. ولكن اليابانيين يضحكون دائما ولا يقولون شيئا.. ويكون هذا السكوت دافعا قويا لأن يحاول العالم أن يفك طلاسم التقدم العلمي الباهر لشعب في المائة سنة الماضية..
فما هي المعجزة اليابانية؟
بالضبط: ماهذا الذي حققته اليابان أو المانيا الآسيوية؟
كيف أن شعبا بدأ تطوره وحركة تنويره معنا ـ نحن المصريين ـ ثم هو يتقدمنا وغيرنا من شعوب العالم مئات السنين.. كيف فعلها؟ ولايزال يتقدم الشعوب الأوروبية والأمريكية.. إن اليابانيين لايقولون شيئا, ولايعترضون علي أي شيء يقال عنهم..
يقال: إن المعجزة اليابانية: هي الصبر...
ويقال: إنها التماسك العائلي.. فالشركة أو المصنع هو عائلة يعيش فيها كل واحد ويموت ولايخرج منها ولايخرج عنها فالعامل الذي يعمل في إحدي الشركات, لم يحدث أن تركها أو فصلوه منها.. واذا حدث فإنه لايذهب مطلقا إلي شركة منافسة.. ولم يحدث أيضا أن قبلت شركة منافسة عاملا أو مهندسا كان يعمل في شركة أخري.. فهو ـ إذن- يولد ويعيش ويموت في شركة واحدة, هي التي تعلمه وتزوجه وتعالجه وتزوج أولاده وأحفاده..
ولايستطيع أي إنسان في العالم أن يكون له مثل هذا السلوك الياباني. ولايطيق أحد هذه التبعيه المطلقة لشركة أو لمصنع.. ولكنهم في اليابان يقبلون ذلك ولايرون غيره..
فهل هذا هو سر العظمة اليابانية؟ ماسر الشعب الذي مسح به الحلفاء الأرض وما تحت الأرض فقام جبارا قويا عنيفا.. أعظم وأروع من الروس والأمريكان والانجليز والفرنسيين الذين احتلوه وأهانوه وأذلوه!!
لقد اجتمع أربعة آلاف استاذ في علم النفس الاجتماعي والصناعي والتفتوا إلي الدنيا من حولهم واتخذوا قرارا.. القرار أن العالم كله يكره الشعب الياباني.. هذه حقيقة, يعجب بهم ولكن لايحبهم.. السؤال: لماذا يكرهنا العالم كله؟
هذه هي القضية التي التف حولها كل أساتذه علم النفس والاجتماع وخبراء الصناعة والزراعة والتجارة والاعلام..
والمطلوب هو معرفة: لماذا؟!
يتساءلون هل لهذه الكراهية مايبررها؟.. وهل يستطيع الشعب الياباني الذي أكد عبقريته في إبهار الناس وغزو الأسواق وخراب بيوت كثير من المصانع المنافسة لليابان.. هل هذا الشعب يستطيع أن يكون عبقريا في محبة الناس ـ أي في جعل الناس يحبونه؟
هل تستطيع اليابان أن تخلق لها حبا في العالم؟ هل يمكن( تخليق) الحب؟ هل يمكن تصنيع الحب لكل ماهو ياباني؟
وكم يتكلف الحب؟
أما الكراهية فقد كلفت الشعب الياباني عرقا ودموعا ودما وموتا مائة عام وزيادة.. فهل اليابان في حاجة إلي مائة سنة أخري لكي يكون حبها عالميا, كما أن الاعجاب بها عالمي أيضا؟!
***
فاليابان أرضه ضيقة وأهله كثيرون.. وليست في بلاد اليابان موارد طبيعية.. ربما كان ماء المحيطات, وقد استخرجوا منه السمك واللؤلؤ.. أما اللؤلؤ فقد اخترعوا له حلا سريعا لنموه.. فبدلا من أن ينتظروا قواقع اللؤلؤ تنمو فيها حبات اللؤلؤ سنة بعد سنة.. إلي خمس سنوات..فإنهم وضعوا في داخل محارة اللؤلؤ نوعا من الكرات الصغيرة المصنوعة من محارات أسماك أمريكية, هذه الحبات الصغيرة تؤلم حيوان اللؤلؤ فيفرز حولها المادة الفضية في سنة.. أو أقل.. وهذا هو اللؤلؤ المزروع.. وقد كنت أول عربي يري مزارع ومصانع اللؤلؤ سنة1959 في مدينة تويا.. وقد تطورت زراعة اللؤلؤ...
فهم الآن يتحكمون في حجمه وفي لونه.. ودرجة شفافيته.. ولايملك حيوان اللؤلؤ إلا أن يطيع.. وقد ابتكر هذه الطريقة البسيطة العبقرية رجل اسمه ميكو موتو.. وهو اسم أكبر محلات ومزارع اللؤلؤ في العالم..
أذكر أنني قابلت أحد أحفاده في طوكيو وأبديت إعجابا ساذجا بزراعة اللؤلؤ, فكان الحفيد ينحني ويتراجع ويشير بيده إلي الوراء.. ولم أفهم معني الانحناء مع الإشارة. أما الانحناء فهو الادب الياباني التقليدي.. في الشارع وفي البيت وأنت تتناول العشاء مع أي أحد.. اما الإشاره باليد فهي إلي تمثال مصنوع من حبات اللؤلؤ لجده السيد ميكو موتو..
وقد برع اليابانيون في كل شيء كما برعوا في زراعة اللؤلؤ.. أخذوا من أوروبا وأمريكا وطوروا وأضافوا وأبدعوا.. ونافسوا كل الدول التي سبقت اليابان في كل هذه الصناعات..
فالأمريكان ـ مثلا ـ اخترعوا الترانزستور, واليابانيون طوروه وجعلوا سعره أرخص ولانهاية لأشكاله وألوانه.. وقاموا بغزو شامل كاسح لكل أمريكا وأوروبا.. وكذلك التليفزيون والمسجلات والساعات والكاميرات والعدسات والسيارات.. والآن سفن الفضاء والصواريخ.. وأدوات التجميل والموضات وكل الأجهزة الطبية والالكترونية..
ولايزال علماء النفس يبحثون ويتساءلون: إن كان هذا هو السبب في كراهية الناس لهم.. أي كراهية الناس لمن يعيش معهم تحت نفس السماء وفي نفس المحيط وفجأة يسبق الجميع سرا ودون أن يدري أحد: كيف حدث ذلك؟!
فكيف كانت البداية؟
البداية كانت معنا.. فعندما كان رفاعة الطهطاوي ومن بعده علي مبارك يدرسان في فرنسا ويترجمان الدستور الفرنسي والنظريات الاجتماعية والسياسية, ويقارنان بين حضارة الاسلام وحضارة
المسيحية, وينقلان كل ذلك إلي مصر, وفي حالة انبهار ادبي وفكري, كان اليابانيون يرتادون أوروبا وأمريكا بحثا عن سر تقدم الغرب لكي يتقدموا مثل الغرب ويتقدموا علي الغرب أيضا.. لقد كانت ثورة..
والثورة اليابانية هي الثورة الوحيدة في تاريخ الإنسان في كل العصور التي قامت وتحققت دون إراقه دماء.. الثورة الفرنسية كان فيها إعدام واحراق ودم... والثورة الأمريكية عرفت الدماء والنار والدخان.. والثورة الروسية أعدمت عشرات الملايين.. إلا ثورة اليابان, فلا قطره دم واحدة.. ثم إنها ثورة بمعني الكلمة: تغيير جذري للنظر إلي الحياة, وأدوات الحياة... وتعديل نهائي في مسار علاقات الانتاج وتشكل الانتاج, وقفزة بعيدة جدا باليابان إلي بداية خط السباق مع الغرب وبمنتهي الجدية والتركيز الشديد والتضحية اللانهائية... كثير من العرق والدموع ولا نقطة دم واحدة!!
وقد بدأ كل شئ يتغير في اليابان من حادثة واحدة, فوجئ أبناء طوكيو بسفينة حربية كبيرة... السفينة نزل منها رجل طويل ابيض أحمر.. يرفع العلم الأمريكي ويريد أن يتحدث مع أي أحد مسئول... فلم يتحدث إليه أحد.. فهم لا يفهمون كيف جرؤ هذا الاجنبي علي أن يلوث المياه المقدسة لليابان... ولما لم يجد القائد الأمريكي أحدا غادر المياه اليابانية ليعود إليها بعد عام.. أي سنة1854 ولم تكن سفينة واحدة, وإنما أربع سفن وعلي ظهرها560 بحارا.. يريد مسئولا يتحدث إليه ويقدم إليه هذه الهدايا الكثيرة من فساتين السيدات والمجوهرات والاحذية والاطعمة الامريكية, ويريد أن تسمح اليابان للاسطول الامريكي بأن يتزود بالماء.. وإذا مرض أحد من البحاره, فلتسمح له اليابان بالعلاج... وهو في الوقت نفسه يطلب التبادل التجاري بين البلدين... يبيع سلع أمريكا ويشتري سلع اليابان, ومن حق الأسطول الياباني ــ إن كان هناك ــ أن يذهب إلي الشواطئ الأمريكية ويتمتع بنفس المزايا... ووجد أحدا, واتفق معه, وغادر المياه المقدسة..
ولكن دهشة الشعب الياباني لم تنته: السفينة وحجم السفينة.. وأجهزة السفينة وملابس الجنود والضباط وطعامهم.. وأدوات الأكل والشرب.. كل ذلك لم يكن قد رآه الشعب الياباني.. ولا يعرف كيف الحصول عليه.. ولا كيف يصنعه لو تخيل لحظه أنه قادر علي ذلك... ولم تنته الدهشة.. ولم تنته الصدمه الحضارية.. كأن السفينة الأمريكية مليون لغم عائم انفجر فانفتحت رءوس الناس وعيونهم وانطلق خيالهم إلي بعيد... ما هذا؟.. كيف هذا؟.. لماذا؟... أين نحن وأين هم؟... وكيف السبيل إلي هذه الحضارة الجديدة؟!
ودخل الأمريكان والاوروبيون إلي بلاد اليابان وطلبوا معاملات ممتازة, وذاق اليابانيون المر اشكالا والوانا بسبب هذه الامتيازات التي تجرعناها نحن أيضا في مصر, وفي الوقت نفسه, وبسرعة أوفدت اليابان عددا من المثقفين إلي أوروبا وأمريكا.... ليروا, ويفهموا, ويعودوا لكي يعلموا الشعب الياباني... ذهبوا إلي أوروبا وعاشوا, ورأوا وكتبوا وفهموا وناقشوا وقرروا... اما الذين ذهبوا إلي أمريكا فلم يبهرهم شئ هناك, فقط عندما حضروا احدي الحفلات وجدوا الرجال يقفون امام النساء.. ثم تنهض المرأة والرجل يلف يده حول خصرها... وترقص هي وهو علي أطراف الاصابع مع الموسيقي.... ساعة وراء ساعة.. كان ذلك أعجب ما شهدوا في الدنيا... كيف يتقارب الرجل والمرأة هكذا علنا؟! كيف يعانقها علنا ويراقصها علنا ويتلامسان أثناء الرقص!! هذا ما لا يمكن أن يحدث في اليابان, فالمسألة بين الرجل والمرأة كبيرة جدا.. والكلفة لا يمكن أن تزول هكذا, ولا المسافات... اما كل الذي رأوه في أمريكا فيمكن تقليده وتنفيذه... إلا هذا الرقص فيحتاج الي عشرات السنين لتغيير سلوكيات وتقاليد اليابان! ولم يشغلهم الرقص كثيرا...
ولكنهم عادوا ببرنامج عمل بسيط جدا.. هو الثورة الحقيقية.. بل الثورة الوحيدة البيضاء الباهرة في تاريخ الإنسان... لأنها غيرت كل شئ حتي وصلت باليابان إلي ما هي عليه الآن... فماذا فعل هؤلاء المثقفون؟
أولا: استدعوا عددا من الانجليز لكي يعلموهم صناعة السكك الحديدية والتليفونات..
ثانيا: وعددا من الفرنسيين ليضعوا لهم دستورا جديدا..
ثالثا: طلبوا من الألمان أن يعلموهم بناء المستشفيات وصناعة الدواء.
رابعا: ومن الأمريكـــــان أن يقيموا لهــــم المدارس ويضعوا لهم البرامج التعليمية..
خامسا: طلبوا من الايطاليين أن يعلموهم الرسم والنحت والموسيقي..
وجاء هؤلاء الخبراء إلي اليابان وأقاموا سنة وسنه اخري.. وعلموا مئات اليابانيين وودعهم اليابانيون بانحناءة عميقة وامتنان عظيم... ثم اقفلوا علي أنفسهم المصانع والورش والمدارس.. وبدأت اليابان تغير حياتها وأسلوبها وموقعها علي خريطة الدنيا... ويكفي أن نعلم أن اليابان هي أول دولة استخدمت اللاسلكي في الحرب سنة1904 ــ اللاسلكي الذي تعلمته من بريطانيا ــ فقد رصدت اليابان حركات الاسطول الروسي الذي اتجه يضرب اليابان في مياهها.. فرصدوا تحركات الاسطول الروسي والتقوا به حيث لم يكن يتوقع أحد.. وذلك بمتابعة الاسطول الروسي باللاسلكي... وأحرقوا27 سفينة روسية.. وكان ذلك أعظم إعلان عن اليابان الجديدة...
هذه هي كل اسرار النهضة اليابانية... التنوير الياباني... لا أسرار ولا ألغاز.. وإنما هم اناس رأوا الغرب.. ودرسوا وحللوا وقرروا, وصمموا, فكانت ثورتهم علي انفسهم في كل شئ!!
فهل هذا معقول ؟!
نعم هذا هو المعقول في الفكر الياباني والثورة الجبارة الهادئة التي دفعت اليابان إلي الأمام في كل المجالات في السلام وفي الحرب.. وفي الارض وفي الفضاء... فغزوا كل الاسواق بلا منافس.. ولم ينافسها احد إلا تغلبت عليه... أليس من الطبيعي أن يكرهها العالم؟!
فكيف يكون طبيعيا أن يحبها العالم... هذا ما يبحثه منذ العام الماضي ألوف علماء النفس والصناعة والزراعة والطب في كل الجامعات اليابانية, لعلهم يخرجون بوصفه جديدة للحب.. يمكن تطبيقها وتشريعها.. أي المطلوب هو أن يصنعوا( حجاب المحبة والقبول) للشعب الياباني في العالم كله, فهل هذا ممكن؟
اليابانيـــــون يقــــــولون: إنه ممكـــــن, ولابد أن نصدقهم.. فالذي فعلــــــوه فــــي كل المجـــــــالات يقنعنا بقدرتهـــــم الفذة علي صنع المعجزات... وإذا كانوا قد صنعوا المعجزات التي أوغرت عليهم قلوب الدنيا, فليس بعيدا أن يصنعوا ما يجعل القلوب تحبهم..
ممكـن؟.. إنهم يؤكــــدون أن هذا ممكن!!
بقلم: أنيس منصور
http://shabab.ahram.org.eg/Ahram/2003/3/1/anees.jpg
العالم كله يتفرج علي عجائب الصناعات اليابانية ويريد أن يفهم.. أو أن يعرف سر هذه العظمة العلمية والصناعية.. ولكن اليابانيين يضحكون دائما ولا يقولون شيئا.. ويكون هذا السكوت دافعا قويا لأن يحاول العالم أن يفك طلاسم التقدم العلمي الباهر لشعب في المائة سنة الماضية..
فما هي المعجزة اليابانية؟
بالضبط: ماهذا الذي حققته اليابان أو المانيا الآسيوية؟
كيف أن شعبا بدأ تطوره وحركة تنويره معنا ـ نحن المصريين ـ ثم هو يتقدمنا وغيرنا من شعوب العالم مئات السنين.. كيف فعلها؟ ولايزال يتقدم الشعوب الأوروبية والأمريكية.. إن اليابانيين لايقولون شيئا, ولايعترضون علي أي شيء يقال عنهم..
يقال: إن المعجزة اليابانية: هي الصبر...
ويقال: إنها التماسك العائلي.. فالشركة أو المصنع هو عائلة يعيش فيها كل واحد ويموت ولايخرج منها ولايخرج عنها فالعامل الذي يعمل في إحدي الشركات, لم يحدث أن تركها أو فصلوه منها.. واذا حدث فإنه لايذهب مطلقا إلي شركة منافسة.. ولم يحدث أيضا أن قبلت شركة منافسة عاملا أو مهندسا كان يعمل في شركة أخري.. فهو ـ إذن- يولد ويعيش ويموت في شركة واحدة, هي التي تعلمه وتزوجه وتعالجه وتزوج أولاده وأحفاده..
ولايستطيع أي إنسان في العالم أن يكون له مثل هذا السلوك الياباني. ولايطيق أحد هذه التبعيه المطلقة لشركة أو لمصنع.. ولكنهم في اليابان يقبلون ذلك ولايرون غيره..
فهل هذا هو سر العظمة اليابانية؟ ماسر الشعب الذي مسح به الحلفاء الأرض وما تحت الأرض فقام جبارا قويا عنيفا.. أعظم وأروع من الروس والأمريكان والانجليز والفرنسيين الذين احتلوه وأهانوه وأذلوه!!
لقد اجتمع أربعة آلاف استاذ في علم النفس الاجتماعي والصناعي والتفتوا إلي الدنيا من حولهم واتخذوا قرارا.. القرار أن العالم كله يكره الشعب الياباني.. هذه حقيقة, يعجب بهم ولكن لايحبهم.. السؤال: لماذا يكرهنا العالم كله؟
هذه هي القضية التي التف حولها كل أساتذه علم النفس والاجتماع وخبراء الصناعة والزراعة والتجارة والاعلام..
والمطلوب هو معرفة: لماذا؟!
يتساءلون هل لهذه الكراهية مايبررها؟.. وهل يستطيع الشعب الياباني الذي أكد عبقريته في إبهار الناس وغزو الأسواق وخراب بيوت كثير من المصانع المنافسة لليابان.. هل هذا الشعب يستطيع أن يكون عبقريا في محبة الناس ـ أي في جعل الناس يحبونه؟
هل تستطيع اليابان أن تخلق لها حبا في العالم؟ هل يمكن( تخليق) الحب؟ هل يمكن تصنيع الحب لكل ماهو ياباني؟
وكم يتكلف الحب؟
أما الكراهية فقد كلفت الشعب الياباني عرقا ودموعا ودما وموتا مائة عام وزيادة.. فهل اليابان في حاجة إلي مائة سنة أخري لكي يكون حبها عالميا, كما أن الاعجاب بها عالمي أيضا؟!
***
فاليابان أرضه ضيقة وأهله كثيرون.. وليست في بلاد اليابان موارد طبيعية.. ربما كان ماء المحيطات, وقد استخرجوا منه السمك واللؤلؤ.. أما اللؤلؤ فقد اخترعوا له حلا سريعا لنموه.. فبدلا من أن ينتظروا قواقع اللؤلؤ تنمو فيها حبات اللؤلؤ سنة بعد سنة.. إلي خمس سنوات..فإنهم وضعوا في داخل محارة اللؤلؤ نوعا من الكرات الصغيرة المصنوعة من محارات أسماك أمريكية, هذه الحبات الصغيرة تؤلم حيوان اللؤلؤ فيفرز حولها المادة الفضية في سنة.. أو أقل.. وهذا هو اللؤلؤ المزروع.. وقد كنت أول عربي يري مزارع ومصانع اللؤلؤ سنة1959 في مدينة تويا.. وقد تطورت زراعة اللؤلؤ...
فهم الآن يتحكمون في حجمه وفي لونه.. ودرجة شفافيته.. ولايملك حيوان اللؤلؤ إلا أن يطيع.. وقد ابتكر هذه الطريقة البسيطة العبقرية رجل اسمه ميكو موتو.. وهو اسم أكبر محلات ومزارع اللؤلؤ في العالم..
أذكر أنني قابلت أحد أحفاده في طوكيو وأبديت إعجابا ساذجا بزراعة اللؤلؤ, فكان الحفيد ينحني ويتراجع ويشير بيده إلي الوراء.. ولم أفهم معني الانحناء مع الإشارة. أما الانحناء فهو الادب الياباني التقليدي.. في الشارع وفي البيت وأنت تتناول العشاء مع أي أحد.. اما الإشاره باليد فهي إلي تمثال مصنوع من حبات اللؤلؤ لجده السيد ميكو موتو..
وقد برع اليابانيون في كل شيء كما برعوا في زراعة اللؤلؤ.. أخذوا من أوروبا وأمريكا وطوروا وأضافوا وأبدعوا.. ونافسوا كل الدول التي سبقت اليابان في كل هذه الصناعات..
فالأمريكان ـ مثلا ـ اخترعوا الترانزستور, واليابانيون طوروه وجعلوا سعره أرخص ولانهاية لأشكاله وألوانه.. وقاموا بغزو شامل كاسح لكل أمريكا وأوروبا.. وكذلك التليفزيون والمسجلات والساعات والكاميرات والعدسات والسيارات.. والآن سفن الفضاء والصواريخ.. وأدوات التجميل والموضات وكل الأجهزة الطبية والالكترونية..
ولايزال علماء النفس يبحثون ويتساءلون: إن كان هذا هو السبب في كراهية الناس لهم.. أي كراهية الناس لمن يعيش معهم تحت نفس السماء وفي نفس المحيط وفجأة يسبق الجميع سرا ودون أن يدري أحد: كيف حدث ذلك؟!
فكيف كانت البداية؟
البداية كانت معنا.. فعندما كان رفاعة الطهطاوي ومن بعده علي مبارك يدرسان في فرنسا ويترجمان الدستور الفرنسي والنظريات الاجتماعية والسياسية, ويقارنان بين حضارة الاسلام وحضارة
المسيحية, وينقلان كل ذلك إلي مصر, وفي حالة انبهار ادبي وفكري, كان اليابانيون يرتادون أوروبا وأمريكا بحثا عن سر تقدم الغرب لكي يتقدموا مثل الغرب ويتقدموا علي الغرب أيضا.. لقد كانت ثورة..
والثورة اليابانية هي الثورة الوحيدة في تاريخ الإنسان في كل العصور التي قامت وتحققت دون إراقه دماء.. الثورة الفرنسية كان فيها إعدام واحراق ودم... والثورة الأمريكية عرفت الدماء والنار والدخان.. والثورة الروسية أعدمت عشرات الملايين.. إلا ثورة اليابان, فلا قطره دم واحدة.. ثم إنها ثورة بمعني الكلمة: تغيير جذري للنظر إلي الحياة, وأدوات الحياة... وتعديل نهائي في مسار علاقات الانتاج وتشكل الانتاج, وقفزة بعيدة جدا باليابان إلي بداية خط السباق مع الغرب وبمنتهي الجدية والتركيز الشديد والتضحية اللانهائية... كثير من العرق والدموع ولا نقطة دم واحدة!!
وقد بدأ كل شئ يتغير في اليابان من حادثة واحدة, فوجئ أبناء طوكيو بسفينة حربية كبيرة... السفينة نزل منها رجل طويل ابيض أحمر.. يرفع العلم الأمريكي ويريد أن يتحدث مع أي أحد مسئول... فلم يتحدث إليه أحد.. فهم لا يفهمون كيف جرؤ هذا الاجنبي علي أن يلوث المياه المقدسة لليابان... ولما لم يجد القائد الأمريكي أحدا غادر المياه اليابانية ليعود إليها بعد عام.. أي سنة1854 ولم تكن سفينة واحدة, وإنما أربع سفن وعلي ظهرها560 بحارا.. يريد مسئولا يتحدث إليه ويقدم إليه هذه الهدايا الكثيرة من فساتين السيدات والمجوهرات والاحذية والاطعمة الامريكية, ويريد أن تسمح اليابان للاسطول الامريكي بأن يتزود بالماء.. وإذا مرض أحد من البحاره, فلتسمح له اليابان بالعلاج... وهو في الوقت نفسه يطلب التبادل التجاري بين البلدين... يبيع سلع أمريكا ويشتري سلع اليابان, ومن حق الأسطول الياباني ــ إن كان هناك ــ أن يذهب إلي الشواطئ الأمريكية ويتمتع بنفس المزايا... ووجد أحدا, واتفق معه, وغادر المياه المقدسة..
ولكن دهشة الشعب الياباني لم تنته: السفينة وحجم السفينة.. وأجهزة السفينة وملابس الجنود والضباط وطعامهم.. وأدوات الأكل والشرب.. كل ذلك لم يكن قد رآه الشعب الياباني.. ولا يعرف كيف الحصول عليه.. ولا كيف يصنعه لو تخيل لحظه أنه قادر علي ذلك... ولم تنته الدهشة.. ولم تنته الصدمه الحضارية.. كأن السفينة الأمريكية مليون لغم عائم انفجر فانفتحت رءوس الناس وعيونهم وانطلق خيالهم إلي بعيد... ما هذا؟.. كيف هذا؟.. لماذا؟... أين نحن وأين هم؟... وكيف السبيل إلي هذه الحضارة الجديدة؟!
ودخل الأمريكان والاوروبيون إلي بلاد اليابان وطلبوا معاملات ممتازة, وذاق اليابانيون المر اشكالا والوانا بسبب هذه الامتيازات التي تجرعناها نحن أيضا في مصر, وفي الوقت نفسه, وبسرعة أوفدت اليابان عددا من المثقفين إلي أوروبا وأمريكا.... ليروا, ويفهموا, ويعودوا لكي يعلموا الشعب الياباني... ذهبوا إلي أوروبا وعاشوا, ورأوا وكتبوا وفهموا وناقشوا وقرروا... اما الذين ذهبوا إلي أمريكا فلم يبهرهم شئ هناك, فقط عندما حضروا احدي الحفلات وجدوا الرجال يقفون امام النساء.. ثم تنهض المرأة والرجل يلف يده حول خصرها... وترقص هي وهو علي أطراف الاصابع مع الموسيقي.... ساعة وراء ساعة.. كان ذلك أعجب ما شهدوا في الدنيا... كيف يتقارب الرجل والمرأة هكذا علنا؟! كيف يعانقها علنا ويراقصها علنا ويتلامسان أثناء الرقص!! هذا ما لا يمكن أن يحدث في اليابان, فالمسألة بين الرجل والمرأة كبيرة جدا.. والكلفة لا يمكن أن تزول هكذا, ولا المسافات... اما كل الذي رأوه في أمريكا فيمكن تقليده وتنفيذه... إلا هذا الرقص فيحتاج الي عشرات السنين لتغيير سلوكيات وتقاليد اليابان! ولم يشغلهم الرقص كثيرا...
ولكنهم عادوا ببرنامج عمل بسيط جدا.. هو الثورة الحقيقية.. بل الثورة الوحيدة البيضاء الباهرة في تاريخ الإنسان... لأنها غيرت كل شئ حتي وصلت باليابان إلي ما هي عليه الآن... فماذا فعل هؤلاء المثقفون؟
أولا: استدعوا عددا من الانجليز لكي يعلموهم صناعة السكك الحديدية والتليفونات..
ثانيا: وعددا من الفرنسيين ليضعوا لهم دستورا جديدا..
ثالثا: طلبوا من الألمان أن يعلموهم بناء المستشفيات وصناعة الدواء.
رابعا: ومن الأمريكـــــان أن يقيموا لهــــم المدارس ويضعوا لهم البرامج التعليمية..
خامسا: طلبوا من الايطاليين أن يعلموهم الرسم والنحت والموسيقي..
وجاء هؤلاء الخبراء إلي اليابان وأقاموا سنة وسنه اخري.. وعلموا مئات اليابانيين وودعهم اليابانيون بانحناءة عميقة وامتنان عظيم... ثم اقفلوا علي أنفسهم المصانع والورش والمدارس.. وبدأت اليابان تغير حياتها وأسلوبها وموقعها علي خريطة الدنيا... ويكفي أن نعلم أن اليابان هي أول دولة استخدمت اللاسلكي في الحرب سنة1904 ــ اللاسلكي الذي تعلمته من بريطانيا ــ فقد رصدت اليابان حركات الاسطول الروسي الذي اتجه يضرب اليابان في مياهها.. فرصدوا تحركات الاسطول الروسي والتقوا به حيث لم يكن يتوقع أحد.. وذلك بمتابعة الاسطول الروسي باللاسلكي... وأحرقوا27 سفينة روسية.. وكان ذلك أعظم إعلان عن اليابان الجديدة...
هذه هي كل اسرار النهضة اليابانية... التنوير الياباني... لا أسرار ولا ألغاز.. وإنما هم اناس رأوا الغرب.. ودرسوا وحللوا وقرروا, وصمموا, فكانت ثورتهم علي انفسهم في كل شئ!!
فهل هذا معقول ؟!
نعم هذا هو المعقول في الفكر الياباني والثورة الجبارة الهادئة التي دفعت اليابان إلي الأمام في كل المجالات في السلام وفي الحرب.. وفي الارض وفي الفضاء... فغزوا كل الاسواق بلا منافس.. ولم ينافسها احد إلا تغلبت عليه... أليس من الطبيعي أن يكرهها العالم؟!
فكيف يكون طبيعيا أن يحبها العالم... هذا ما يبحثه منذ العام الماضي ألوف علماء النفس والصناعة والزراعة والطب في كل الجامعات اليابانية, لعلهم يخرجون بوصفه جديدة للحب.. يمكن تطبيقها وتشريعها.. أي المطلوب هو أن يصنعوا( حجاب المحبة والقبول) للشعب الياباني في العالم كله, فهل هذا ممكن؟
اليابانيـــــون يقــــــولون: إنه ممكـــــن, ولابد أن نصدقهم.. فالذي فعلــــــوه فــــي كل المجـــــــالات يقنعنا بقدرتهـــــم الفذة علي صنع المعجزات... وإذا كانوا قد صنعوا المعجزات التي أوغرت عليهم قلوب الدنيا, فليس بعيدا أن يصنعوا ما يجعل القلوب تحبهم..
ممكـن؟.. إنهم يؤكــــدون أن هذا ممكن!!