المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : توبة .. د/ مصطفي محمود


طمطم22
06-25-2007, 09:42 AM
تـــــــــــــــــــوبــــــــــــــــــــــــــــ ــة
بقلم‏:‏ د‏.‏ مصطفي محمود


http://shabab.ahram.org.eg/Ahram/2003/3/1/mostafa.jpg

وضع المقامر ألف جنيه علي المائدة في تحد وهو ينظر في عين الرجل الذي يلاعبه وينفث خيطا حادا من الدخان‏..‏

ـ اتعرف لماذا يجد المحب لذة في عبوديته للمرأة التي يحبها؟

أجاب الآخر وهو يدلق بقايا كأس في جوفه‏.‏

ـ لماذا؟

ـ لأنه لا يفطن أنها عبودية بل يخيل إليه أنها حرية‏..‏ ألا يكسر القوانين ويحطم الشرائع ويباشر الممنوعات‏..‏ وأخرج خيطا آخر من الدخان‏.‏
ـ وكذلك نحن عبيد القمار لذتنا في تخيلنا بأننا نتسلق علي كتف القدر‏,‏ وبأننا نخالسه ونغير ونبدل في الأرزاق ونسرق من الغيب‏.‏

قال الآخر في ثقة مطلقة‏:‏

ـ نعم‏..‏ وهذه ألف جنيه مثلها وأتحداك أني سوف أربح‏..‏ اكشف ورقك‏..‏ أرأيت ـ كيف خالست القدر وأخذت هذه الألف الأخري؟

ـ إنه إحساس رائع‏..‏ أليس كذلك‏.‏

ـ نعم أشبه بإحساس الدرويش الذي يخرق الحجب‏.‏

ـ إحساس يصرع القلب في المكسب‏.‏

وأردف الآخر في برود‏:‏

ـ ويصرعه في الخسارة‏.‏

ثم وضع يده في جيبه وأخرج شيكا بألف أخري ألقاه في بساطة علي المائدة وهو يقول‏:‏

ـ كان المقامر في الماضي بعد أن يخسر كل شيء يقامر علي زوجته ثم يبيع أولاده‏.‏

وفي النهاية حينما لا يبقي إلا جسمه يطلق عليه الرصاص ويدفع حياته ثمنا لآخر لعبة‏.‏
ـ وأي لعبة‏..‏

ـ لعبة اختراق مائدة الدنيا كلها والذهاب إلي الآخرة‏.‏

ـ لعبة ليس فيها مكسب أبدا بل خسارة كلية والي الأبد‏.‏

ـ ولكن من يلعبها يتصور دائما أشياء أخري‏..‏ يتصور أنه استراح وخرج من عذابه وخرج من نفسه‏.‏

ـ وهل خرج احد من نفسه وهل يستطيع‏..‏ تلك أكبر كذبة‏.‏

ـ ولكننا أمام هذه المائدة‏,‏ علي الأقل نخرج من أنفسنا ونأخذ إجازة من عقولنا ولو علي مدي ليلة‏.‏

ـ بل ما نفعله هو عين أنفسنا وذات أنفسنا‏..‏ ذلك التدميرالذي نباشره هو أنفسنا وذلك التهور والسفه والحمق وتعجل المصير‏,‏ والقفز علي كتف القدر وتسلق أسرار الغيب هو أنفسنا‏..‏ ومن يفعل كل هذا غيرنا‏..‏ وهل فعلنا ما فعلناه تمثيلا علي أنفسنا‏..‏ أم أنها الحقيقة‏.‏

ـ بل الحقيقة وعين الحقيقة‏.‏

ـ وسر لذتنا أننا نعيش حقيقتنا‏..‏ هل تصدق أني أحيانا أشعر برجفة لذة وأنا أقلب الورقة لأعرف الحقيقة‏.‏

ـ وهي لذة أقوي من كل لذة‏,‏ ولهذا نضيع في سبيلها كل شيء‏..‏

وقد ظل الرجل أسيرا لهذه اللذة‏,‏ يباشرها في ذهول مقيدا بقيود خفية إلي كرسيه حتي طلع الفجر وحتي خسر كل مايملك‏.‏

وحينما قام في النهاية كان رصيده الضخم في البنوك قد أصبح صفرا‏.‏

وخرج ليمشي وحده علي شاطئ النيل‏,‏ والفجر الرمادي يصفع وجهه بنسمات باردة فيفيق علي شيء ثقيل كالجدار يمتد أمامه في الجهات الأربع‏,‏ فيسد عليه المسالك فهو يمشي وكأنه لا يمشي ويتنفس وكأنه لا يتنفس‏.‏

وشعر أنه مات تماما ولم يبق إلا إعلان خبر وفاته‏.‏

وانهار علي مقعد من المقاعد الحجرية المتناثرة علي النيل‏.‏

هل يمكن أن يكون للإنسان أكثر من نفس واحدة‏.‏ إنه يشعر الآن بنفس أخري تتكلم فيه غير تلك التي كان يجلس بها علي مائدة القمار‏..‏ نفس أخري لوامة تلومه وتعتب عليه‏,‏ وتحاول أن تهديه وتبصره وتفتح أمامه أبواب الأمل‏,‏ وترشده إلي حياة أخري شريفة منتجة نافعة‏,‏ غير تلك التي عاشها كابن وحيد وارث للملايين‏.‏

وهي تقول له‏:‏ إن كل ماحدث كان نعمة‏..‏ وإنه لم يخسر إلا قيوده‏,‏ وإلا تلك الأغلال التي كانت تجعل منه ذلك الرجل الكسول المتواكل الذي يعيش عالة علي ثروة رجل ميت‏,‏ وإنه من الآن سوف يعمل ويكافح ويري الحياة في ضوء جديد‏..‏ من الآن سوف يوظف عقله في شيء آخر غير‏(‏ البوكر والكنكان والبكاراه وسوف يوظف قدميه ويديه في شيء آخر غير الذهاب والعودة من الكازينو كل ليلة‏.‏

إنه سيكون ميلادا وبعثا لإنسان جديد‏,‏ وموتا ونهاية لإنسان قديم‏.‏

ولكن هل مات ذلك المقامر بالفعل‏,‏ أم أن إمكاناته فقط هي التي ماتت‏.‏؟‏!!‏

لكم تمني في تلك اللحظة وهو يستعرض شريط حياته التافه الذي أنفقه علي موائد القمار لو أن ذلك المقامر قد مات بالفعل‏:‏ وانتهي إلي غير عودة‏.‏

لكم تمني هذه الأمنية بحرقة وصدق وإخلاص‏,‏ حتي لقد بدا له كل ماخسر وكل مافقد وكل ماأنفق‏..‏ بدا له كل هذا ثمنا قليلا يدفعه عن طيب خاطر في سبيل موت هذه النفس التي ضيعته‏.‏

ولأنه كان صادقا فقد شكر الله علي ماخسر‏,‏ بقدر ماكان يشكره علي ماكان يكسب‏.‏
ولقد رأي الله صدقه فتاب عليه وكتب له أن يولد من جديد رجلا آخر‏.‏

الطفل العميق‏!‏

حينما كنا أطفالا كانت الدنيا تبدو في عيوننا متحفا رائعا مليئا بأشياء غريبة مذهلة مدهشة‏.‏ وكنا لانكف عن الدهشة كلما وقعت عيوننا علي شيء‏..‏ ولانكف عن السؤال‏..‏ ولانكف عن الفضول‏..‏ ولاتشبعنا إجابة‏..‏ إذا قالوا لنا هذه شجرة‏..‏ عدنا نسأل بكل براءة‏..‏ وما الشجرة‏..‏ فيقولون لنا‏..‏ نبات اخضر‏..‏ وما النبات الأخضر‏..‏ نبات له جذور وفروع وأوراق‏..‏ وما الجذر وما الفروع وما الأوراق‏..‏ مثل الأرجل والسيقان‏..‏ وما الأرجل والسيقان‏..‏ قوائم مثل قوائم الكرسي‏..‏ وما الكرسي‏..‏ آلاف الأسئلة‏..‏ ولانهاية‏..‏ ولاشبع‏..‏ ولا جواب يشفي غليل العقل المتطلع الي الحقيقة‏..‏ ولا كلمة

تحمل لنا مدلولا‏..‏ كلها كلمات فارغة بلا معني

ونحن حينما نتذكر هذه الأسئلة الآن وبعد أن كبرنا يخيل إلينا انها كانت إلحاحا تافها‏..‏ ولجاجة سمجة‏.‏

والحقيقة أنها لم تكن أبدا إلحاحا تافها‏..‏ وإنما كانت اكتشافا خطيرا‏..‏

لقد اكتشفنا بها إفلاس اللغة‏..‏ فما اللغة إلا مجموعة حروف وإشارات مثل إشارات مورس التلغرافية ليس فيها صدق غير الصدق الاصطلاحي الذي اصطلحنا عليه‏..‏ كل الكلمات ليست سوي اصطلاحات مرغمة علي دلالات هي بريئة منها‏..‏ مجرد بطاقات كبطاقات التسعيرة قابلة للاستبدال من بلد إلي بلد ومن لغة إلي لغة ومن زمن إلي زمن‏..‏ أما الحقيقة ذاتها فهي بلا اسم‏..‏

الحقيقة مطلقة من الأسماء‏..‏ نباشرها بقلوبنا ولا نستطيع أن نسميها بأسماء تحيط بها‏..‏

بيننا وبين الحقيقة فرقة وانشقاق‏..‏ ارتباطنا بالحقائق ارتباط سطحي‏..‏ ارتباط بألفاظ‏..‏ ارتباط بأجسام‏..‏ خبز وثرثرة وعادات متوارثة وكلمات محفوظة وحياة تمر علي طريقة قتل الوقت‏..‏ وقتل الحياة‏..‏ قزقزة لب‏..‏ وإحراق سجائر‏..‏ وإحراق أيام‏..‏ ماذا نأكل اليوم‏..‏ كيف ننفق ملل هذا المساء‏..‏ كيف نوقع هذه المرأة في حبائلنا‏..‏ غرائزنا تسد علينا أبواب إدراكنا‏..‏ لا يكاد الواحد منا يري أبعد من ساق زوجته‏..‏ لا يكاد يري أبعد من غرفة نومه‏..‏ وغرفة طعامه‏..‏ وأنانيته توصد عليه الباب أكثر بأن تسجن أفكاره في حلقة مفرغة من الحقد والحسد والغيرة والمصلحة‏..‏ نوم عميق وحياة أشبه بالطقوس البدائية‏..‏ لا شيء يضيء هذه الحياة سوي اللحظات الطفلة‏..‏ اللحظات التي نرتد فيها الي طفولتنا وبراءتنا ونشاهد الحياة في بكارتها ونظافتها وعذريتها من قبل أن تدنسها الكلمات‏.‏

لحظات الصحو والانتباه والرؤي الطاهرة التي تقفز بنا عبر أسوار المألوف والمعتاد وتكشف لنا وجوها أخري من وجوه الحقيقة‏..‏

وهذا هو ما قصده النبي أيوب حينما قال كلمته المعروفة في التوراة وقد بلغ به العذاب والصبر مداه‏..‏ فقال مخاطبا ربه‏:‏

الآن تستطيع عيني أن تراك‏..‏

من ذروة العذاب والألم رأي أيوب الحقيقة في لحظة من هذه اللحظات الملهمة‏..‏ رأي قدسية الحياة برغم الشقاء وبرغم الألم‏..‏ وشعر بهذه القدسية في نفسه‏..‏ في إصراره وصموده وصبره وصراعه مع المستحيل الذي بلغ الذروة‏..‏ دالا بذلك علي منتهي حريته‏..‏ فابتهج لأنه أصبح جسد الحرية ولحمها ودمها‏..‏

وهي اللحظة نفسها التي صرخ فيها الطفل في قصة هانز أندرسون وأشار الي الإمبراطور وهو يغرق في الضحك قائلا‏:..‏ ألا ترون أن الإمبراطور عريان‏..‏

إنه الوحيد الذي لم ينخدع بحكاية الثوب الخرافي الذي نسجه الدجالون للإمبراطور‏..‏ الوحيد الذي نظر الي الإمبراطور فوجد أنه لا يلبس شيئا‏.‏ فقال ببراءة وصراحة وبلا خجل ولا رياء‏..‏ انظروا‏..‏ ألا ترون أن الإمبراطور عريان‏..‏

وهذا أعمق ما في الطفل‏..‏ تلك البراءة التي لا تعرف الخوف ولا الخجل ولا الكياسة ولا المجاملة‏.‏

حينما يرفع إلينا الطفل وجها يقطر بالبراءة والسذاجة ليسألنا من أين جئتم بي إلي هذه الدنيا؟

فإنه في الحقيقة يضع سؤالا لا يستطيع أن يجاوب عليه أحد‏.‏ سؤالا أعمق من كل أفهامنا وأفهام آبائنا وأجدادنا من الفلاسفة الذين أفنوا أعمارهم في التفكير‏..‏

من أين جئنا إلي هذه الدنيا‏..‏ وإلي أين نذهب؟‏!‏

لا أحد من الكبار يعرف‏..‏ ولا أحد يحاول أن يعرف‏..‏ ولا أحد‏..‏ يفكر‏.‏

كلنا أرحنا أنفسنا من التفكير ومن الأسئلة ومن الأجوبة‏.‏ وشغلنا أنفسنا بما نأكل اليوم وما نشرب‏..‏ وكيف نقتل ملل هذا المساء وكيف نوقع هذه المرأة في حبائلنا‏.‏

ولكن الطفل البريء العميق‏..‏ مشغول‏..‏ وهو يطرح علينا سؤاله بكل براءة‏.‏

ومن هذه اللحظات النادرة‏..‏ من هذا القلق الطفل العميق الذي يهتك ألفة الأشياء المألوفة فتبدو غريبة غير مألوفة‏..‏ تتدفق الأسئلة التي يتألف منها فكر الإنسان وحضارته وتقدمه‏..‏ بدافع هذا القلق النبيل يعيد الإنسان النظر في كل شيء‏,‏ ويرفع المنظار المبتذل الذي يضعه علي عينيه ويكف عن الرؤية العادية المبتذلة‏,‏ ويبدأ في تقدير الأشياء بمعيار جديد ويحلق فوق مستوي غرائزه‏..‏ ويري أبعد من أنفه ويصلح من هندامه‏..‏ ويطور من تفكيره ولا يعيش ويموت كذباب ملتصق بالعسل‏.‏

في رؤي الفنان‏..‏ وأحلام القائد‏..‏ وإلهام المصلح‏..‏ هذه البراءة التي تكشف بضوئها فساد المألوف‏..‏ وقصور الواقع‏..‏ وتتطلع إلي حل‏..‏ وجواب‏..‏ وخلاص‏..‏

والعظيم هو الذي يحافظ علي براءته وعلي أفكاره الحرة المجنحة التي تزدري كل ما تواضع عليه الناس من واقع مألوف مبتذل‏.