المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من غير نهاية .. أنيس منصور


طمطم22
06-25-2007, 03:33 PM
من غـــــــــــير نهــــــــايــــة

http://shabab.ahram.org.eg/Ahram/2003/6/1/ANEES.jpg

أنيـــــس منصــــــــــــور


آه‏..‏ لو كانت أفكاري وعواطفي ملفوفة كلها علي هيئة بكرة خيط‏..‏ لها أول ولها آخر‏..‏ ولها اللون الذي يعجبني‏..‏ آه لو كنت أستطيع ان أرتب هذه الخيوط بالشكل الذي يعجبني‏..‏

آه‏..‏ لو كنت أعرف ما يدور في عقلي‏..‏ وفي قلبي‏..‏ وفي معدتي‏..‏ أنني كثيرا اتلخبط في مشاعري‏..‏ فأحس بالصداع في معدتي‏..‏ وأحس بالمغص في عقلي‏,‏ وبالقرف في قلبي‏..‏ أنني لا أعرف أين يوجد الحب‏,‏ ولا أين توجد الكراهية‏..‏ ولا أين الجوع والعطش‏..‏

أنني أعرف أن الطريق إلي العقل يمر بالمعدة والقلب‏..‏ ولكن لا أعرف أول هذا الطريق ولا نهايته‏.‏ فنحن نأكل ولكن عملية الاكل هذه عملية عقلية‏..‏ والشعور باللذة مسألة عقلية‏..‏ والشعور بالارتياح للذين نجلس إليهم عند الأكل مسألة عاطفية‏..‏ مسألة قلبية‏..‏ فبأي شيء نأكل‏..‏ بالقلب؟‏..‏ بالعقل؟ بالمعدة؟ لا أعرف‏!!‏

وأمس جلست أرتب أفكاري‏.‏ حاولت ان أجعل قلمي هو البكرة‏.‏ وحاولت ان أجعل أفكاري وعواطفي هي الخيط المزدوج‏..‏ ولم أفلح في ترتيبها‏..‏

وانما أمسكت هذه الخيوط علي هيئة عقد‏..‏ وحاولت أن أحل عقدي واحدة واحدة‏..‏

وكل إنسان في الدنيا له عشرات العقد‏..‏

وهذه العقد هي نتيجة صراعنا الدائم بين ما نريد وما نستطيع‏..‏ بين الذي نريد أن نحققه‏..‏ أن نكسبه وأن نفوز به‏..‏ يعني بين أحلامنا وآمالنا وبين الذي نستطيع أن نأخذه من أنياب الناس وأظافر المجتمع‏..‏ فنحن نريد‏,‏ والمجتمع يقاوم أحلامنا‏.‏

فكل انسان في جيبه ملاليم‏,‏ ويريد أن يشتري العمارات الكبيرة وشعورنا بالعجز عن تحقيق الذي نريده‏,‏ هو الذي يعقدنا‏..‏ هو الذي يجعلنا نشعر بأننا عاجزون‏..‏ فاشلون‏..‏ فنكره القادرين‏..‏ ونحقد علي الناجحين‏..‏ وعلي السعداء‏..‏ وعلي غيرنا من الناس‏..‏

وهذه العقدة هي التي تغري الخيوط بأن تلتف حولي وتتعقد‏..‏ وتتعقد ويصبح كل إنسان شخصا معقدا‏..‏ يعذب كل إنسان معه وحوله‏,‏ ويتعذب هو الآخر‏.‏

بدأت أعد العقد التي عندي‏.‏ فوجدتها كثيرة لا نهاية لها‏..‏ كالعقد الموجودة في أي بلوفر‏..‏ في أي بدلة‏..‏ في أي فستان‏..‏ ولولا التفاف الخيوط بعضها حول بعض لاستحال وجود أي ثوب‏..‏ فالعقد هي أساس أي نسيج‏..‏ أي شيء نرتديه‏..‏ أي شخصية ندخل فيها‏.‏

وبدأ الكلام يدور بيني وبين نفسي‏..‏ أو بيني وبين العقد الكثيرة التي هي نفسي‏..‏ وعندما أتكلم مع نفسي فأنني أكون أقل أدبا‏..‏ يعني أرفع الكلفة جدا بيني وبين نفسي‏.‏

فقلت‏:‏ قل لي بقي ياحضرة‏..‏ ماهو تفسيرك لرجل كبير زي حضرتك ومعه لعبة صغيرة‏..‏ عروسة‏..‏ حصان‏..‏ شــــخشيـــــخة وفي جيوبه حمص ولب؟ ما تفسيرك ياحضرة الأستاذ؟‏!‏

ورددت علي نفسي‏:‏ ماهو قصدك؟

قلت‏:‏ طبعا أنت عارف قصدي‏..‏ عاوز تفسير لهذه الحادثة الطريفة المضحكة؟‏!‏

وكان ردي‏:‏ تسميها مضحكة‏..‏

قلت‏:‏ آسف أنا أقصد أنها تسيل الدموع‏..‏ دموع الضحك‏..‏ دموع الاسف‏..‏ لأنها دموع تسيل لمجرد ذكر هذه الحادثة‏..‏ حادثة واحد في يده شخشيخة‏..‏ واحد كبير في السن‏.‏

وكان ردي‏:‏ اسمع‏..‏ هناك نظرية في علم النفس تقول‏:‏ إن الانفعالات الشديدة تجعل الانسان يتحول إلي طفل صغير‏..‏ فالرجل عندما يخاف فإنه يصرخ كالطفل‏,‏ ويهرب كالطفل‏..‏ والرجل عندما يفرح يتحول إلي طفل‏..‏ ويبكي من شدة الفرح ويرقص كأنه يميل‏..‏ وهذا الذي حدث أخيرا وأنت تصفه بأنه يبعث علي الضحك هو نوع من الرجوع إلي الطفولة‏..‏

فالحب الشديد والكراهية الشديدة‏..‏ وكل ماهو شديد وكل ماهو عنيف‏..‏ يضربنا كالكرة فترتمي في أحضان شبكة الجول‏..‏ شبكة الطفولة‏..‏ تعيدنا الي اللغة‏..‏ إلي صدر الأم‏.‏

فالرجل عندما يحب في سن كبيرة‏..‏ فهو مسكين ياسيدي‏..‏ أنه يصبح طفلا وكل شيء في دنياه يصبح صغيرا‏..‏ الناس يصبح عددهم قليلا جدا لا يزيدون علي أمه ومرضعته‏..‏ والبيت يصبح غرفة واحدة‏..‏ وقلمه إن كان كاتبا‏,‏ يصبح بزازة لا تفـارق فمـــــه‏..‏ بزازه لا تكــــتب‏..‏ بزازة لا تنطق ولا تقول شيئا‏..‏ لانه هو لا يقول شيئا‏..‏

قلت‏:‏ إلي هذه الدرجة‏..‏ هل من الممكن أن تؤدي أشياء صغيرة تافهة إلي هذه الانفعالات الكبيرة‏,‏ إلي تحويل رجل إلي طفل‏,‏ وتحويل غني إلي شحاذ وتحويل جبل إلي صحراء مليئة بالرمال‏,‏ وتحويل قلم مليء بالحبر والديناميت إلي بزازة أو زجاجة شفافة‏..‏ كل ما فيها سائل له لون واحد‏..‏

وكان ردي‏:‏ طبعا أنت تعرف الذي سأقوله‏..‏ هو انه لا يهز الدنيا غير الأشياء الصغيرة‏..‏ أشهر قنبلة في الدنيا هي القنبلة الذرية‏..‏ الذرية نسبة إلي الذرة‏..‏ أي إلي الجسم الصغير جدا الذي لا تراه العين‏,‏ فإذا انفجر‏..‏ أنت تعرف النتيجة‏..‏ وقطرات الماء عندما تنزل من السماء تراها في النيل عند الفيضان‏..‏ انها الذرات التي سحقتها مياه الأمطار‏..‏

والمطر هو دموع السماء‏,‏ والعكاره هي دموع الجبال أيضا‏.‏

والانفعالات الشديدة هي النار التي تحول الماء الي بخار‏..‏ وهي النار التي تذيب الحديد‏..‏ أعصابك الحديدية‏..‏ وهي النار التي تحيل عينيك الجامدتين الي مصابيح حمراء‏..‏ هي النار التي تأكلك فتصبح أفكارك دخانا‏,‏ وكلامك شرارا‏,‏ وتجعل كل شيء يؤلمك ويوجعك‏..‏

قلت‏:‏ أيوه فكرتني‏..‏ أنني الاحظ ان كل شيء يوجعك‏..‏ كل شيء يؤلمك‏..‏ كأن أعصابك خارج جلدك‏..‏ كأن شعر جسمك هو أعصابك‏..‏ أو كأن كل شعرة في جسمك هي ايريال يتلقي كل شيء من الخارج ويوصله إليك بسرعة‏..‏ أو كأن هذه الشعرات تتحول إلي أبر تلسعك‏..‏ أو كأنك فقير هندي وبدلا من أن ينام علي سرير من المسامير‏..‏ فإنه قد وضع المسامير في جلده ليصبح كل مكان سريرا له‏..‏ فالمسامير في جسمه‏..‏ السرير في أي مكان‏..‏ أو كأنك جمعت كل الأبر الموجودة في الناس وغرستها في نفسك‏..‏ كأنك المسيح الذي تحمل كل الآلام نيابة عن البشر‏..‏

قل لي بقي‏:‏ أيه حكاية الألم الشديد الذي تعانيه‏..‏ ثم ماهي حكاية الاحتقار الواضح الذي تخفي فيه آلامك‏..‏ كأن آلامك قطعة من القماش الأحمر‏..‏ وضعتها في كيس من النايلون الأسود‏..‏ ماهذا ياحلال العقد؟

وكان ردي‏:‏ نعود إلي حكاية الرجل العجوز الذي أحب‏..‏ لايمكن أن يكون هناك رجل عجوز يحب دون أن يكون في هذا الحب بعض الإحتقار‏..‏ لنفسه أو لغيره‏..‏ فهو أولا يحتقر نفسه لأن الحب جعله يهبط إلي هذه الدرجة‏..‏ لأن الحب جعله يضع الحمص والسوداني في جيبه‏..‏ ويجعل تصرفاته أيضا كتصرفات العيال‏..‏ وهذا هو الذي يجعل العجوز يحتقر نفسه‏..‏ وهو في نفس الوقت يحتقر الفتاة الصغيرة التي يحبها‏..‏ يحتقرها لأنها مصدر عذابه‏.‏ يحتقرها لأنها جعلته يتحول إلي طفل غير محترم‏..‏ أمام الناس وأمام نفسه‏..‏ وهذا هو الأهم‏..‏ ولأنها لاتقدر حبه لها‏..‏ لاتقدر التضحية الشديدة التي قام بها‏..‏ لاتقدر الثمن الذي دفعه من كرامته‏..‏ فالحب هنا كالنار التي تجعل ماء الوجه يتبخر‏..‏ تجعل الكرامة تتحول إلي دخان في الهواء‏..‏ تسمح لي أضرب لك أحد الأمثال‏..‏ المثل مش ولابد ولكنه صحيح‏....‏

ماهو أحب شئ إلي الذباب؟‏..‏ العسل طبعا‏..‏ والذبابة تقع في العسل‏..‏ وتحاول الخروج من العسل‏..‏ إنها تحب العسل‏,‏ ولكنها لاتحب أن يمسك العسل بأرجلها ويجعلها عاجزة عن الحركة‏.‏ ولاتزال تقاوم وتقاوم حتي تموت‏..‏ تموت أحلي ميتة‏...‏

ولكن العسل الذي تحبه قاسي عليها‏..‏ كأنه وحش قاتل‏..‏ لايزال يقتلع أرجلها وأجنحتها حتي يجردها من كل عناصر الحياة‏..‏ مع أن العسل هو حياتها‏,‏ هو جنتها‏,‏ هو فردوسها الذي تحلم به‏..‏ ويتحول الفردوس إلي كفن‏..‏ إلي نعش‏..‏ إلي قبر‏..‏ إلي عزرائيل‏..‏

وهذه الذبابة تحب العسل وتحتقره وتكرهه‏..‏ وتحبه‏..‏ فهذا العجوز الذي يحب‏..‏ إنه يجعل كل عواطفه ملفوفة في هذا النايلون الأسود‏..‏ حب مع الاحتقار لشخص المحب‏,‏ وللشخص المحبوب‏...‏

هل فهمت ؟‏..‏ إيه تاني عاوز تعرفه مني وعني؟

قلت‏:‏ والحل؟

وكان ردي‏:‏ حل أيه؟

ورددت‏:‏ كل هذه العقد لايمكن أن يكون لها حل‏..‏ وأنا لاأفكر في حلها وإنما أتركها تحل نفسها بنفسها‏..‏ وأنا أفضل أن أعيش في فرن من الإنفعالات الشديدة‏..‏ التي تجعل أعصابي تذوب ودموعي تسيل‏..‏ وعيني في لون الشفق علي أن أعيش وأموت جامدا‏..‏ أفضل أن أتحول إلي ذرات كالجبل‏,‏ علي أن أبقي صحراء مفككة‏..‏ كلها رمال ليس لها شكل ولاحجم ولا أول ولاآخر‏...‏

إنني لا ألوم الناس‏,‏ ولا ألوم نفسي‏..‏

قلت‏:‏ ولاتلوم الإحتقار‏..‏ إحتقارك لنفسك أو لغيرك‏..‏ ولامانع عندك من أن تكون كهذا العجوز يلعب بالكرة أو البلي أو البزازة‏...‏ أو تلعب به الكرة أو‏..‏ البزازة‏!!‏

وكان ردي‏:‏ عندي مانع‏..‏ عندي مانع أن أصبح كيسا من النايلون الأسود ليس في داخله أي شئ‏..‏ عندي مانع أن يكون كل شعوري هو احتقاري لنفسي أو لأي إنسان‏..‏

قلت‏:‏ والخلاصة؟

وكان ردي‏:‏ أنا نفسي أكتب قصة طويلة‏..‏ أروي فيها كيف حدث فجأة أن عجوزا وأنا مصر علي أن يكون هذا المحب عجوزا ـ كيف أنه أحب فتاة‏..‏ ونقطة الصراع بينهما ليست فارق السن‏..‏

فالمرأة عندها من مخاوفها وتجارب جنسها كله مايجعلها تستطيع أن تقف مع أي رجل في أي سن علي مستوي واحد‏..‏ فالفتاة في أي سن تستطيع أن تكون شريكة لأي رجل في أي شئ أو أي معني‏.‏ ونقطة الصراع ستكون بينهما في شئ صغير جدا‏..‏ تافه‏..‏ يبدو تافها‏..‏ أنها تريده أن يكون صعبا أن ينطق بصعوبة‏..‏

ألا ينطق بكلمة الحب أبدا‏..‏ ألا يقولها مهما كانت الظروف‏...‏ أنها تريد أن تغتصب منه هذه الكلمة‏..‏ أن تري حروفها ترتسم علي مر السنين علي وجهه‏,‏ علي لسانه‏.‏ إنها لاتريد أن تسمع كلمة الحب ولا أن تراها‏,‏ ولا أن تري مقدمتها‏..‏ تريد أن تحسها ولاتراها‏,‏ أن تتوهمها‏,‏ أن تتخيلها‏,‏ أن تحلم بها ولذلك فهي تنقله إلي جو جميل‏,‏ فإذا رأت الحروف الأولي للحب هربت منه وهربت به‏.‏ ويتعذب هو وتتعذب هي من أجله‏..‏ وتعود إليه تتمسح فيه‏.‏ وتبكي لأنها لاتسعده ولاتعرف لماذا تحب الحب وتكره كلمة الحب‏,‏ تحب الحنان وتكره كلمة الحنان‏..‏

أما هو فمشكلته‏..‏ أنه يريد أن يسمع منها كلمة الحب‏.‏

أن يسمع منها كلمة الحنان‏..‏ يريد أن يري الوجه الذي يحبه وقد تبدلت عليه كل ألوان الحب‏..‏ كل حروف الحب‏..‏ فينزل شعرها علي وجهها كالألف واللام‏...‏ وينفتر فمها كالحاء‏..‏ ويطبع هو قبلة تكون كالنقطة تحت الباء‏..‏ يريد أن يلصق علي وجهها ورقة كتبت فيها كلمة الحب ملايين المرات‏..‏ يريد أن يصبح كلامها كله مكونا من حرفين‏:‏ حاء وباء‏..‏ كل الحروف الهجائية لاتهمه‏..‏ كل الكلمات لاتهمه‏..‏ يهمه فقط هذان الحرفان‏.‏ وتصبح مشكلته أنه يريد أن يسمع الكلمة التي تكرهها هي‏.‏ وهو ينقلها إلي الجو الحلو لكي تقولها‏..‏ وهي تنقله إلي نفس الجو لكي يهم بالكلام ولايقول‏..‏ نار‏..‏ نار‏..‏ يدخلها برجليه‏..‏ نار تهرب منها برجليها وبرجليه‏..‏ نار تجعل الحديد يتلوي‏,‏ والماء يغلي‏,‏ والعجوز يتحول إلي طفل‏,‏ والطفل يلهو ويلعب كالعيال ويبكي كالرجال‏..‏

قلت‏:‏ وبعدين؟

ورددت‏:‏ إلي هنا توقفت العقد‏..‏ بودي‏.‏

أن أبحث عن نهاية‏..‏ بعض الناس يكتفون بهذا القدر من القصة‏.‏ والباقي يغمرونه في النوم‏..‏ في النسيان‏..‏ إنهم لايريدون أن تنتهي‏..‏ أو يحاولون أن ينسوا أنها بدأت‏.‏ وينسون بالنوم الطويل‏..‏ وينسون بالسهر الطويل‏..‏ وبالخمر الكثير‏..‏ وبالدوخة المستمرة في العمل الشاق‏,‏ أو الدوخة التي يصبونها في أقراص منومة أو أكواب ملونة‏..‏ أو في دخان ملون‏..‏ أنهم يصبحون كالجبال التي تختفي قممها في السحاب الأسود‏.‏

قلت‏:‏ وبعدين؟

وكان ردي‏:‏ وبعدين‏,‏ قل لي أنت أعمل أيه؟

قلت‏:‏ أحسن حل هو أن تكتب‏..‏ وأعظم حبر في الدنيا‏:‏ سواد الليل والدموع‏..‏ أكتب حتي إذا لم تكن هناك فائدة

وكان ردي‏:‏ سأكتب‏!‏

وأضيفت عقدة جديدة‏!!!

المصدر .. مجلة الشباب