المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكاية حريه .. د/ مصطفي محمود


طمطم22
06-25-2007, 12:55 PM
تـــاملات في دنيا الله

حكــــــــــــاية حـــــــرية

http://shabab.ahram.org.eg/Ahram/2003/9/1/mostafa.jpg

د / مصطفي محمود


كل الفلسفة في العالم‏..‏ وكل المعارف التي في الكتب‏..‏ لاتستطيع أن تشرح لي حكمة الشر في هذه الدنيا‏.‏

لماذا يتعذب الأطفال الأبرياء ؟‏..‏ لماذا يغتالهم المرض؟

إن منظر طفل مشلول يتحدي كل الكلمات‏.‏

كل الكلمات تصبح ثرثرة سخيفة غير مجدية‏..‏ وكل علم الأولين والآخرين يصبح جهلا عميقا مثيرا للإشفاق‏..‏ أمام عذاب طفل يبكي‏..‏ لاشئ كالألم‏..‏

إنه ألم فصيح‏..‏ وقح‏..‏ صفيق‏..‏ متبجح‏..‏ يصفع كل إيمان‏..‏ وكل معرفة‏.‏ ويزري بكل حكمة‏.‏

إن صرخة الطفل المشلول تخرق كل أذن‏..‏ وتسفه كل حكمة‏..‏ وتخترق السماوات السبع‏..‏ وتصعد إلي الله نفسه‏..‏ لتصرخ عالية في حضرته بلاخوف‏..‏ في سؤال أبدي شديد الإلحاح‏:‏

ماذا فعلت لأتألم؟

ماذا جنت يداي البريئتان المغسولتان من كل الأفعال وكل النوايا؟ من الذي زرع الشوك‏..‏ وأنزل اللعنة‏..‏ وصب النقمة وبث الشرور‏..‏ هنا‏.‏ في هذا المكان

من صاحب كل هذا؟

ولماذا فعله؟

أهي صدفة أن يتعذب الأطفال‏..‏ويمرض العجائز‏,‏ ويدب فيهم السوس حتي النخاع؟

أهي صدفة أن تعطب كل الثمار الناضجة‏..‏ وتنتشر الديدان في البراعم فتأكلها وهي غضة؟

أهي صدفة أن يمتلئ الماء والهواء والتراب بميكروبات فتاكة تنشر الدمار والخراب وتنهش كل حياة تخالطها‏..‏ وتنهش بعضها في شراسة لاتشبع؟

أهي صدفة أن تتقلب الأرض بين برد قارس‏..‏ وحر لافح‏..‏ ورياح سموم‏..‏ وسيول كاسحة‏..‏ وزلازل مروعة‏..‏ وبراكين متفجرة وصواعق منقضة‏.‏

أهي صدفة أن تتغذي الحياة بالعدوان علي بعضها فتلتهم الماشية الزرع‏..‏ وتلتهم الذئاب الماشية‏..‏ وتلتهم السباع الذئاب‏..‏ ويقتل الإنسان الكل‏..‏ ثم يتحول الجميع إلي تراب يعود إلي الأرض فيخصبها ويصبح غذاء تلتهمه النباتات من جديد؟

أهي صدفة هذه الدورة الانتقامية التي يثأر فيها كل شئ من الآخر؟‏..‏

أهي صدفة‏..‏ آلام الولادة‏..‏ وآلام الاحتضار‏..‏ وعذاب الحمل؟‏.‏

أهي صدفة عذابنا المتكرر كل يوم ونحن نجري وراء اللقمة لنملأ أحشاءنا‏..‏ ونحن نجري مرة أخري لنفرغ أحشاءنا؟

صدفة أن نتمزق كل لحظة بين شاعرية أرواحنا‏..‏ وحيوانية أجسادنا‏..‏ وبين مانفعله‏..‏ ومايجب أن نفعله‏.‏ بين مطالب أنفسنا‏..‏ ومطالب الآخرين‏..‏؟

صدفة أن يفني كل شئ‏..‏ كل ماهو جميل‏..‏ وكل ماهو مشرق وكل ماهو أمل‏..‏ وكل ماهو قوة‏..‏ كل اللحظات بكل ماتحويه‏..‏ تفني‏..‏ وتنصرم‏..‏ وتنتهي‏..‏ وتذهب إلي غير عودة؟

صدفة‏..‏ حياتنا اليومية لحظة بلحظة في خوف‏..‏ وقلق‏..‏ وانتظار وترقب‏..‏ وتوجس‏..‏ وحذر‏..‏ لانجاة منه إلا بشرور أخبث منه‏..‏ كالإدمان‏..‏ والإفراط‏..‏ والتفريط‏..‏ والبلادة‏..‏ والسفه والوقاحة‏..‏ والصفاقة؟

صدفة أنك تظلمني‏..‏ وأني أظلمك‏..‏ وأنك تحقد علي وأني أحسدك وأنك توقع بي‏..‏ وأني أسخر منك‏..‏ وأنك تضطهدني‏..‏ وأني أستغلك؟

صدفة أن تكون الحريات في العالم كله شحيحة‏..‏ وأن يكون الأمان

مستحيلا واليقين ممتنعا والثقة نادرة‏..‏ والحب قصة‏..‏ والصداقة طرافة تروي؟

صدفة‏..‏ جرائم السرقة والقتل والاغتصاب‏..‏ وأحكام الإعدام والمؤبد والأشغال الشاقة؟

صدفة‏..‏ الحروب والمجازر والمذابح‏..‏ منذ ظهور الإنسان إلي هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور‏..‏

صدفة‏..‏ الكذب كل يوم‏..‏ وكل ساعة‏..‏ وكل لحظة علي أنفسنا وعلي الآخرين؟

صدفة‏..‏ الغرور‏..‏ والأنانية‏..‏ والتعصب‏..‏ والتسلط‏..‏ والطغيان؟

لا‏..‏ إنها ليست صدفا بالمرة

إنها بعض مكونات الحياة

إنها جزء من الطبيعة القاسية التي وجدنا أنفسنا علي ظهرها‏..‏ ومضينا نصطرع فيها بلا حيلة‏..‏ لأنها فينا‏..‏ بضعة منا‏..‏

وهي ليست جريمتنا‏..‏ ولاجريرتنا‏..‏ فالزواحف المنقرضة التي عاشت علي هذه الأرض من قبل مجيئنا ماتت ملطخة بالدم نابا ومخلبا‏..‏ ودفنها الجليد‏..‏

العذاب في حشوة الكون‏..‏ وليس صنيعة الإنسان وحده‏..‏ وإذا كنا نبدو أحيانا وفي يدنا السكين فنحن أيضا القتيل‏..‏ والطعين‏..‏

نحن الوارثون الأبرياء لهذه الطبيعة الممزقة الشريرة‏..‏ لم نجلبها علي أنفسنا‏..‏ وإنما جلبتها علينا لحظة الميلاد‏..‏

هل من ضرورة لهذه الالآم؟

هل من سبب؟

هل من حكمة؟

في الكتب المقدسة‏..‏ إن هذا القضاء جري علينا تكفيرا عن الذنب الذي ارتكبه أبونا آدم‏..‏ حينما عصي ربه وأكل من الشجرة المحرمة وكل حياتنا منذ اللحظة الملعونة كانت فدية‏..‏ كانت قربانا لله ليغفر ويعفو‏..‏ ويسامح‏.‏

فلدي المسيحيين‏..‏ دم المسيح كان فدية‏..‏ افتدي بها البشرية الملايين الذين ماتوا ظلما‏..‏ علي الصلبان‏..‏ والمشانق‏..‏ وفي أعماق السجون كانوا فدية‏..‏

الصالحون‏..‏ والأولياء‏..‏ والأتقياء‏..‏ والصادقون‏..‏ وأصحاب المذاهب والرسالات‏..‏ والقادة المخلصون‏..‏ كانوا قرابين لله‏.‏ ليرضي‏..‏ ويعفو‏..‏ ويغفر‏..‏

وأنهار الدم‏..‏ مازالت تجري‏.‏

الله لم يغفر لنا بعد‏.‏

والفلاسفة يقولون‏:‏ إن الشر هو ثمن الحرية‏.‏

كان لابد لتوجد حرية أن يلازمها الشر كعرض من أعراضها‏..‏ فالحرية تستدعي الاختيار الحر‏..‏ وتستدعي أن تكون للإنسان إمكانية الصواب‏..‏ وإمكانية الخطأ‏..‏ وحرية أن يفعل ماينفعه أو مايضره‏..‏ ولو أن إرادته اقتصرت علي توجيهه إلي النافع لما كان بذلك حرا‏..‏ ولأصبحت حياته ذات وجهة واحدة وطريق واحد‏..‏ لا اختيار فيه‏.‏

الحرية أن نفعل مانشاء خطأ أو صوابا ونتحمل مسئوليته‏..‏ ومن هنا كان لابد من الوقوع في الشر‏..‏ لأنه لابد من الخطأ‏..‏ حيث إنه بتقديرنا المحدود وحواسنا المحدودة وإدراكنا المحدود لن نحيط بالحقيقة ولن نعرف كل شئ‏..‏ وسنخطئ دائما‏..‏ وحتما‏..‏ وسنعيش في مشقات متصلة نتيجة هذه الأخطاء‏.‏

لامفر‏..‏ حيث الحرية‏..‏ لابد من الخطأ‏.‏

وماخطيئة آدم إلا رمز للحرية‏..‏ حرية المخلوق في مواجهة الخالق‏..‏ لقد أراد آدم أن يفعل مايشاء لا مايشاء الله‏..‏ واقتضته هذه الحرية أن يقع في الخطيئة وفي الشر‏,‏ لأنه لم يستطع بحواسه المحدودة أن يحيط بالحقيقة‏,‏ وأن يدرك عاقبة أكله من الشجرة‏..‏ وأنه إذ يأكل لابد له أن يخرج نفايات ما يأكله

وأنه إذ يأكل لابد له أن يجري وراء لقمته ويكسب قوته بعرق جبينه‏,‏ ويكافح ويصارع ويقاتل لينتزع لقمته من أنياب الآخرين‏..‏ وهذه هي حياة الأرض بشرورها وآلامها‏..‏ لا الجنة‏..‏ وهكذا أخرجت آدم حريته من الجنة‏..‏ لأنه أراد أن يفعل مايشاء‏..‏ ومازال أبناؤه يصرون علي أن يفعلوا مايشاءون‏..‏ ويعيشوا أحرارا‏..‏ لقد حمل الإنسان الأمانة‏..‏ والأمانة هي الحرية‏..‏ بعد أن رفضتها السماء والأرض والجبال‏..‏ فليحمل تبعاتها‏..‏ وليس الإنسان وحده بل كل المخلوقات‏..‏ فالحياة حرية والحيوان يختار بغريزته‏..‏ كما يختار الإنسان بعقله‏..‏ والميكروبات الدنيئة تختار بفطرتها‏..‏ والنباتات المنحطة تتصرف بموجب طبيعتها الخاصة‏.‏

الحياة حرية علي جميع المستويات

حتي الجمادات

هناك من العلماء من يقولون‏:‏ إن الإلكترون لايتحرك حركة مقدورة محتومة‏..‏ ولكنه يطفر طفرات حرة من ذاتيته‏.‏ وغير خاضعة لأي قانون‏.‏

حتي الكواكب‏.‏ تقول المراصد‏:‏ إنها تخطئ أحيانا‏,‏ وتخرج علي مساراتها وقوانينها وتنفجر وتتحطم في فضاء الكون الفسيح‏..‏ وتتساقط شهبا وسحبا من النار والغبار‏.‏

الحرية باطنة في الوجود والخطأ يلازمها

لأن الحرية باب‏..‏ ينفتح علي مفترق طرق‏..‏ أحد هذه الطرق هو الصواب‏..‏ والطرق الباقية مؤدية إلي الخطأ‏..‏ إلي الجحيم‏..‏

إنها الحرية إذن مفتاح الشقاء الإنساني‏..‏ وهي أيضا مفتاح اللذة‏,‏ وبالحرية وللحرية نتعذب ونعاني‏..‏ ونتخبط بين السكك والمذاهب‏..‏ ونخوض الحروب والمجازر والمذابح‏..‏ ونمشي في الدم‏.‏ ونمرض ونشيخ ونموت‏..‏ وتتحول حياتنا إلي نزال وحركة دائبة لاتهدأ‏..‏ وأي تكاليف لاتردنا عن طلب الحرية‏..‏ وأي ضريبة لاتروعنا‏..‏ وأي خسارة لاتخيفنا‏..‏ وأي عذاب لايضعفنا‏.‏ فنحن نحب حريتنا أكثر مما نحب سعادتنا‏..‏ لأن حريتنا هي شرط وجودنا‏..‏ جوهر وجودنا حقيقتنا‏..‏ لذتنا العميقة‏.‏

بالحرية نكون أنفسنا

وبدونها لانكون شيئا

ونحن نستكثر ما في الحياة من ألم ومرض وشقاء وعذاب نستكثر أن يولد الإنسان ليمرض ويشيخ ويموت ويتعذب ومع ذلك فالإنسان نفسه الذي نشفق عليه‏.‏ هو نفسه يربي الميكروبات ويحالفها ويزرعها في قوارير ويصنع منها قذائف‏..‏ ويعبئ الغازات الخانقة في قنابل ويقف ثائرا متوعدا علي أعتاب حرب ذرية لايتردد في خوضها دفاعا عن حريته‏..‏ لأن هناك شيئا ما أقوي من كل الشرور وأبشع من كل البشاعات في نظره‏..‏ أن يستذل‏..‏ أن تداس أوطانه‏..‏ وتستعمر بلاده‏..‏ ويهان‏..‏ وتسلب حريته‏.‏

إن هذا يسلبه بطاقته الشخصية كإنسان

إن كل مافي الدنيا من ألم وعذاب وشقاء مقبول علي العين والرأس في مقابل أن يكون الإنسان حرا وأن يكون مجتمعه حرا

الإقطاع تحطم أمام الرأسمالية لأن الرأسمالية كانت وعدا بالحرية للكثيرين‏..‏ والرأسمالية تحطمت أمام الاشتراكية لأن الاشتراكية كانت وعدا بتحرير الكل‏.‏

والتاريخ من أيام الفراعنة ومن عصور الظلام كان تاريخا داميا‏.‏ ولكن الحرية كانت دائما تسوغه فلم تكن الدماء الغزيرة التي سالت علي صفحاته إلا حكاية حرية‏.‏

وإذا كنا نعيش ونبتسم ونضحك ونغني في عالم فيه العدوان وتنتشر فيه الأحقاد فلأن الحرية تبرر هذا المرح‏..‏ والعمل من أجل الحرية يجعل حياتنا طافحة بالنشوة ريانة بالأمل

وإنما نعلو علي جراحنا وننساها‏..‏ كلما نظرنا إلي الخلف علي مدي الرؤية ثم إلي الأمام‏..‏ إلي المستقبل البعيد‏..‏ وأبصرنا المشوار الذي مشيناه في سنوات حياتنا القليلة‏..‏ وفي قرون من الصبر والجلد والمكابدة‏..‏ من قبلها وإنه لمشوار رائع‏.‏

والإسلام يضيف لمسة جميلة فهو يقول لنا‏:‏ إن الشر ابتلاء وامتحان تتمايز فيه المنازل والدرجات وتنكشف النفوس علي حقيقتها‏..‏ ثم يضيف بأن الحياة الدنيا بشرورها مجرد صفحة في كتاب سوف تتلوها صفحات وصفحات فبعد الدنيا رقدة البرزخ ثم صحوة البعث‏..‏ والهجرة إلي الله مستمرة فلا يصح أن نحكم علي كتاب من قراءة صفحة واحدة‏..‏ ثم هل نحن أهل كمال لنشترط الكمال‏..‏ وهل احطنا بكل شئ لنحكم علي كل شئ إن المشكلة أكبر من العقل ولاجواب لها إلا الإيمان‏



مجلة الشباب ـ عدد

2003سبتمبر1