المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فتش عن يوسف في كل بئر‏! .. انيس منصور


طمطم22
06-25-2007, 04:09 PM
فتش عن يوسف في كل بئر‏!

http://shabab.ahram.org.eg/Ahram/2003/11/1/ANEES.jpg
بقلم‏:‏أنيس منصور

عثرت علي قصة قصيرة كنت قد كتبتها في مدرسة المنصورة الثانوية‏..‏ وقد أخافني منها استخدامي لكلمة الخوف‏..‏ أكثر عن عشرين مرة مع أن القصة لم تتجاوز صفحة واحدة من مجلة المدرسة‏..‏ أما القصة نفسها فقد أفزعتني ولكنها صورة لأعماقي في ذلك الوقت‏..‏ وإن كانت هذه الصورة لاتزال معلقة علي جوانب نفسي‏.‏

فأنا أحكي أنني كنت أسير في الليل وكانت الدنيا مظلمة‏..‏ حتي السماء أخفت نجومها‏,‏ حتي القمر كان رسما رمزيا لقمر كان في السماء واختفي من شدة الخوف‏..‏ وتوهمت أن هناك أشجارا تمشي الي جواري‏..‏ وان هذه الاشجار تحولت الي جدران في خرائب‏.‏ وازعجني ذلك وانشغلت بالذي حولي عن الذي أمامي وسقطت في البئر‏..‏ ولم يكن لهذه البئر قرار فظللت اهوي حتي اصطدمت بالقاع واعادتني المياه الي السطح واشرقت الدنيا ابتهاجا بنجاتي‏,‏ وطلع النهار‏,‏ وامتلأت السماء بالضوء وكانت الشمس قد لسعتني لاصحو من النوم‏..‏ واكثر ما أدهشني من هذه القصة التي كتبتها منذ اكثر من خمسين عاما إنني جعلت عنوانها‏:‏ أنني ابحث عن قصة يوسف في اعماقي‏!!‏

شيء عجيب انني في مثل هذه السن ابحث عن يوسف عليه السلام في نفسي‏..‏ وكيف ان اخوته ألقوه في البئر‏..‏ وقالوا لابيهم ان الذئب قد أكله‏,‏ وكيف باعوه واشتراه أحد المصريين ودخل السجن وصار بعد ذلك امينا علي مخازن مصر الي آخر القصة‏!!‏

وأعود الي تلك الايام وافتش عن أصل هذه القصة من نفسي لا اعرف بالضبط‏..‏ ولكنه الخوف العميق في نفسي‏..‏ الخوف من ماذا ؟ الخوف من كل شيء‏..‏ فقد كنت اسكن في بيت‏..‏ والبيت منعزل تماما عن بقية البيوت‏..‏ والاضواء لا تصل اليه‏..‏ كأن البيت خائف من بقية البيوت‏..‏ فأنعزل‏..‏ ولذلك فهو خائف ونحن ايضا‏..‏ وقد تحول البيت بسبب الخوف الي شيء مغلق الابواب والنوافذ‏..‏ حتي الكلام في همس كأننا نحن ايضا اغلقنا افواهنا‏..‏ وعندما يجيء الليل تنطبق عيوننا فتصبح قطعة من الجدران‏..‏ لاصوت‏..‏ لا حركة‏..‏ لا همس‏..‏ لا نفس‏..‏ كأن هذا البيت كهف علي سطح الارض‏..‏ او كأن الكلام حولنا بئر يوسف عليه السلام ونحن نعيش في صندوق مغلق ملقي في قاع هذه البئر‏.‏

وأعود فأتذكر انه حدث في احدي الليالي ان قفز ذئب من النافذة‏..‏ واتجه مباشرة الي حيث الدواجن فلم يكن يقصدنا وإنما يتجه الي هذه الطيور‏..‏ وكان فزعنا اكثر من هذه الطيور ولم ننس حادثة الذئب‏..‏ وازداد خوفنا من كل شيء‏..‏ وفي احدي الليالي جاء احد رجال الشرطة يطلب والدي للشهادة ولم اكن قد رأيت واحدا من رجال الشرطة في هذه الساعة من الليل‏..‏ كان طويلا عريضا‏..‏ وكانت عيناه لامعتين‏..‏ وصوته صارخا‏..‏وشاربه كثيفا‏..‏ وقبضته ثقيلة وأقدامه تهز الارض‏..‏ ولا أعرف ان كان هذا الرجل قد جاءنا بعد ذلك‏..‏ ولكني رأيته في نومي كثيرا‏,‏ ورأيته يطلبني أنا لأسباب لا أعرفها‏..‏ ويلقي بي في البئر‏..‏ ويتركني للذئاب وكنت أري هذه الذئاب في نومي لها شوارب رجال الشرطة‏..‏ وكنت أري نفسي حبيسا في قفص الدجاج مثل دجاجة ويجيء الذئب‏..‏ وأقفز من نومي عندما أجد القفص قد انفتح له وحملتني الدواجن طعاما شهيا للذئب‏..‏

وعاودني هذا الشعور بأشكال أخري عندما قرأت قصة الاديب الخائف اكثر مني فرانتس كافكا التي تحول فيها الي صرصار‏.‏ وهذا الصرصار له عقل إنسان وجسم حشرة‏..‏ وكان يسمع ويدري بكل شيء حوله‏..‏ ولكنه لا يستطيع ان يتحرك الا مثل صرصار انقلب علي ظهره‏..‏ فكأنه إنسان حبس في سجن أسود علي شكل وحجم ولون صرصار‏!!‏

وفي ذلك الوقت كان عندي كلب ومات ولا أعرف ما الذي جعلني أحب الكلاب‏..‏ هل هو الخوف ؟ هل هو ظني ان هذه الكلاب تحميني من الذئاب في الليل‏..‏ شيء غريب ان هذا الكلب لم يكن ينبح إلا نادرا‏.‏ هل هو لا ينبح إلا وأنا مستغرق في النوم ولذلك لا أسمعه‏..‏ هل الكلب لاينبح لانه نام تحت غطائي فهو لا يسمع ما حوله‏..‏ هل هو ايضا خائف مثلي‏..‏ ان الذئاب تستطيع ان تقتل الكلاب‏..‏ فلا أحد أقوي من الذئاب ورجال الشرطة في خيالي‏..‏ ذلك الوقت‏!!‏

مات الكلب‏..‏ وتركته علي أحد المقاعد‏..‏ حتي اكرهوني علي إلقائه بعيدا‏..‏ ودفنته تحت الارض ودفنته في الليل وحزنت عليه‏..‏ واحسست أنني أعمي بلا عكاز‏..‏ وأنني عريان أمام الذئاب‏..‏ وأن عشرات البطاطين لا تكفي لحمايتي من الليل والذئاب‏!‏

هل هذا البيت المنعزل في خوف‏..‏ المنعزل في ظلام ؟

هل هذا القبر الذي دفنا فيه انفسنا من الخوف من كل شيء‏..‏ من الليل والانسان والحيوان هو المادة الاولية لهذه القصة لا اعرف ؟ هل هي قصة من قصص الف ليلة وليلة التي قرأنا عنها في ذلك الوقت ؟ هل هي قصة العفريت الذي نام علي حافة البئر علي ساق فتاة جميلة ؟ هل هي الثعابين التي أطلت برءوسها من البئر‏..‏ هل هو خوف هذه الفتاة الدائم ؟ خوفها من العفريت الذي نام علي ساقيها‏,‏ خوفها من العفريت اذا نام والعفريت اذا صحا‏.‏ خوفها من ان تقع في البئر‏..‏ خوفها من ان تمتد اليها رؤوس الأفاعي‏..‏ إنها صور كثيرة من الخوف‏..‏ ولا أدري لماذا هذه القصة بالذات هي التي سقطت في اعماقي ونبتت ونمت وتفرعت وأثمرت شوكا في يقظتي ونومي‏!!‏

ان العالم الكبير فرويد يري ان هذه المخاوف لها مكان واحد طبيعي هو طفولتنا‏..‏ والطفولة هي الارض البكر التي تحتفظ بكل بذور الخوف والكراهية والحب واليأس واللذة والألم‏..‏ هذه الطفولة هي ارض خصبة‏..‏ وما حياة الانسان بعد ذلك الا اعاصير للثمار المرة التي نضجت في طفولتنا‏,‏ قصة البئر والخوف والذئب في حياتي‏,‏ وحياتك‏,‏ ليست الا لوحة سوداء اسمها الليل‏..‏ والا تمثالا صارخا أبرزته اصابع العجز عن التوافق والاتفاق مع كل ظروف البيت والمجتمع‏.‏

والعالم الكبير درموند موريس يري أنها ليست طفولتي أنا وإنما هي طفولة الإنسانية كلها‏..‏ أي عندما كان الانسان يعيش في غابة‏..‏ أو يعيش علي أطراف الغابة بعيدا عن وحوش الغابة‏..‏ أو عندما احتمي في الكهوف الصخرية بعيدا عن الوحوش وعن الناس الآخرين‏..‏ لقد عرف الانسان الخوف علي شكل الليل الصامت‏..‏ أو علي شكل الحيوانات التي لها أنياب‏..‏ أو علي شكل المطر والرعد والبرق والمرض والموت والجسد‏..‏ وليس الكهف الا بئرا من نوع آخر‏,‏ إن الكهف بئر علي سطح الأرض فيها الجدران وفيها الظلام وفيها عواء الذئاب والأمل في النجاة‏..‏

وقصة يوسف هذه مثل عشرات من قصص العذاب في التاريخ انها قصة الوحدة المظلمة‏,‏ أو الظلم الأسود انها قصة اخوة حقدوا علي واحد من الاخوة فألقوه في الظلام والظلم معا‏!!‏

وقصة يونس عليه السلام‏..‏ ابتلعه الحوت‏..‏ وكان الحوت أمانا له من الغرق‏..‏ وكان الحوت وحشا‏..‏ وقد احتمي في الوحوش من اناس اكثر شراسة من الوحش‏..‏ فهو من الحوت وهو آمن في بطن الحوت‏..‏ ففي قلب الحوت‏:‏ ظلم وظلام‏..‏ أو نوع من الآمان المخيف‏..‏ أو الخوف الآمن‏!!‏

وقصة أيوب عليه السلام اكثر الآنبياء عذابا وأشدهم صبرا علي الموت والمرض والهوان أصيب بكل أنواع المصائب‏..‏ في اولاده وفي حيواناته وفي أرضه وفي جسمه‏..‏ التقت علي جلده كل الأمراض وهرب من الناس‏..‏ وأصبح حبيسا للمرض والضعف والذل‏..‏ ولا أمل عنده في الشفاء فهو في سجن‏,‏ والسجن في داخل سجن في داخل سجن‏..‏ الناس بعيدون وهو وحده‏..‏ والأمراض أغلبية ساحقة‏..‏ وهو أقلية مسحوقة‏..‏ وهي تجربة لقدرته علي الصبر فهو لم يرتكب جريمة تحاسبه السماء عليها أو تنتقم منه بسببها‏..‏ وقد أسلم جسمه ونفسه للمرض‏..‏ وانطوي علي قيوده وعلي سجنه‏..‏ وفي هذه الوحدة المظلمة انفرد أيوب‏..‏ أو هي جميعا انفردت بأيوب‏!!‏

والإغريق وهم أساتذة التعذيب في الآدب القديم‏,‏ قد اخترعوا أشكالا وأحجاما ودرجات من التعذيب لأناس أو لأبطال تركوهم وحدهم يحترقون ويصرخون‏,‏ دون أن تمتد اليهم يد‏..‏ أو تصطدم بهم عين‏,‏ أو تمتليء بهم اذن‏,‏ انهم هناك وحدهم مع العذاب وحده‏..‏ ولكن أين أنا‏..‏ في ذلك الوقت من قصة يوسف عليه السلام‏..‏ هناك شيء منها في نفسي‏..‏ أو هكذا توهمت‏..‏ فيوسف كان أحب الأبناء الي أبيه‏..‏ وقد غار الأخوة‏..‏ من ذلك‏..‏ وحقدوا عليه‏..‏ ورموه في البئر‏..‏ وعادوا الي أبيهم بقميص عليه دم‏..‏ لقد أكله الذئب‏..‏ وطلب اليهم آبوهم ان يأتوا بالذئب‏..‏ وأتوا به‏,‏ ولما سأله أبوهم قال له الذئب لا أعرف يوسف‏..‏ ثم ان يوسف لا تأكله الذئاب فلحم الآنبياء محرم عليها‏.‏

والكتب العبرية تقول ان الله انطق الذئب‏..‏ وجاءت هذه البراءة راحة للأب الذي عرف ان ابنه لم يمت‏..‏ وكان فضيحة لأبنائه الذين باعوا أخاهم لرجل من مصر‏..‏ هذا الرجل تبني يوسف‏..‏ وكان يوسف جميلا جدا‏..‏ ويقال ان الله قبل ان يخلق آدم قد قدر ان يعطيه كل الجمال ولكن عاد فأعطاه ربع الجمال‏..‏ أما ثلاثة أرباع الجمال فقد اعطاها ليوسف وأحبته السيدة التي تبنته واسمها زليخة‏..‏ وكاد يوسف ان يقع في غرامها لولا انه كان يري صورة أبيه كلما اقترب منها‏..‏ ومزقت ثيابه من الخلف‏..‏ وعندما اتهمته بالاعتداء عليها أو محاولة ذلك‏,‏ كذبتها أثوابه التي تمزقت من الخلف فقد كانت تطارده وتشده من ملابسه‏..‏ ودخل السجن ليفسر أحلام النزلاء‏..‏ وخرج ليفسر احلام الرجل الذي تبناه‏..‏ وتنبأ بما سوف يحدث لمصر من الجوع والرخاء‏..‏ وجاءه أخوته يطلبون الطعام وعرفهم‏..‏ وأعطاهم قميصه الي أبيه‏.‏ وشم أبوهم رائحة يوسف في قميصه‏..‏ واعيد اليه بصره‏..‏ وجاء الآب والأخوة الي مصر وركبوا وسجدوا امامه‏..‏ ومات يعقوب أبوهم في مصر ولكنه طلب الي يوسف ان يدفنه في سيناء‏..‏ ولما مات يوسف وضعوه في تابوت وألقوه في النيل‏..‏ ولما خرج موسي من مصر حمل معه جثمان يوسف
الي سيناء الي اخر قصة يوسف عليه السلام‏..‏

وفي هذه القصة خوف وفيها انتصار علي الخوف وفيها حقد وفيها أيضا هزيمة لهذا الحقد‏..‏ وفيها أنهم رموا يوسف في البئر وفيها أيضا ان البئر رفعت يوسف الي أعلي المناصب‏..‏

وفيها أن الظلام لم يستطع أن يطفئ جمال يوسف‏..‏ وفيها أن يوسف رأته النساء فقطعن أصابعهن عندما رأينه‏..‏ وقد أرادت زليخة ان تجد لنفسها عذرا اذا أحبت يوسف‏..‏ فعرضته علي النساء فوقعن في غرامه وعذرنها‏,‏ ودخل السجن‏..‏ ولكن جاءت قدرته الخارقة علي تفسير الأحلام‏,‏ سببا لاطلاق سراحه‏..‏ وتعذب أبوه وبكي حتي انطفأ النور في عينيه‏,‏ ولكنه عاد اليه نور العين وهناء القلب عندما عرف ان يوسف حي‏..‏ ويقال ان أباه سأل اولاده فكيف رأيتم يوسف؟ قالوا وجدنا ملكا علي مصر‏,‏ فعاد يسألهم‏:‏ ليس عن هذا أسألكم‏..‏ كيف وجدتم إيمانه‏!‏ قالوا‏:‏ وجدناه مسلما‏,‏ فنهض الرجل من فوق سريره وصلي لله شاكرا‏..‏ ولكن لماذا أخذت في ذلك الوقت من كل هذه القصة جوانبها الموجعة للقلب‏..‏ ومن كل ألوانها إلا سواد الليل وظلام العين وظلم الانسان للإنسان واليأس من السماء ولم أتعمق معاني هذه القصة‏..‏ وإنما جعلت العمق حفرة أهوي اليها في الليل‏..‏ وأصرخ كما كان يصرخ يونس في بطن الحوت‏,‏ أو يوسف في قاع البئر‏..‏ وفي هذا الظلام لم أر البلد التي تحنو ولا سمعت الكلمات التي تواسي ولا وجدت الأمل الذي يضيء الطريق الي النجاة والي الايمان‏.‏

فهل صحيح انه من الضروري ان يبحث الانسان عن يوسف في كل بئر‏..‏ هل صحيح ان نبحث في البئر عن كل يوسف‏...‏ هل صحيح ان نفتش عن البقع السوداء في كل شمس‏..‏

يبدو ان هذا صحيح‏..‏ ففتش في آبارك أو فتش في نفسك لعلك ترحم نفسك مادام أحد لا يرحم أحدا‏!‏

مجلة الشباب
عدد ـ ‏
2003نوفمبر1