المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحرية .. د‏.‏ مصطفي محمود


طمطم22
06-25-2007, 04:16 PM
تأملات في دنيا الله
الحرية

http://shabab.ahram.org.eg/Ahram/2003/11/1/mostafa.jpg
بقلم‏:‏ د‏.‏ مصطفي محمود

إذا كنت رجلا خرافيا مثل السندباد البحري‏..‏ تعيش وحدك في جزائر واق الواق‏..‏ فإن حريتك لن تكون مشكلة‏..‏ سوف تكون وحدك‏..‏ لن يكون هناك صوت إلي جوار صوتك‏..‏ ولا حرية تزاحم حريتك‏..‏ وحدك‏..‏ مثل الحصان الذي يجري في حلبة السباق منفردا فيطلع الاول لانه لا يوجد هناك ثان‏..‏

لن تكون في حاجة إلي نظام‏..‏ سوف تضع قوانينك لحظة بلحظة‏..‏ حسب مقتضيات مزاجك ورغبتك‏..‏ ثم تلغيها متي تشاء‏..‏

سوف تخلع عريانا ثم تتشمس بلا خجل‏..‏ سوف ترفع عقيرتك بالصياح أو بالغناء أو بالصراخ بدون ان تشعر بالحرج‏..‏ لا أحد هناك يطل عليك أو يسمعك‏..‏

لن تعرف شيئا اسمه عيب‏..‏

وعيب ليه؟‏..‏ وبالنسبة لمن وكل شيء منسوب لك وحدك‏..‏

من الذي تخشاه وتحسب حسابه؟

لا أحد‏.‏

لا واجبات عليك نحو أحد‏..‏ ولا حقوق لك عند أحد‏:‏ مهما سرقت لن تكون سارقا‏..‏ ومهما أحرقت لن تكون معتديا‏..‏ ومهما فعلت لن يكون لأفعالك تعقيب ولا مراجعة‏..‏
أنت وحدك‏..‏

ولكن الأمر يتغير تماما حينما تكون واحدا من ألوف مثلك يتعايشون معا في مجتمع‏..‏ كل واحد حر‏..‏ وكل واحد يريد‏..‏ وكل واحد يحلم‏..‏ وكل واحد يرغب‏.‏

سوف تصبح حريتك محاصرة بحريات الاخرين‏..‏ ورغباتك محاصرة برغبات الاخرين‏..‏ وستجد نفسك في حرب لا خلاص منها إلا بعقد اتفاق‏..‏ وتأسيس شركة اجتماعية‏..‏ وتنظيم علاقات‏..‏ ورفض واجبات وإنشاء حقوق‏..‏ وعيب‏..‏ وأصول‏..‏ ويليق ولا يليق‏.‏

وهذه‏..‏ ا‏.‏ب الاشتراكية‏.‏

إنها عملية القسمة الضرورية لإنشاء مجتمع‏.‏

إن حرية السندباد البحري لا تنفع في مجتمع‏..‏ إنها مثل حرية السائق الذي يخترق علامات المرور ولا يلتفت للإشارات ويسير علي هواه كأنه يسير في غابة‏..‏ وهي حرية نهايتها الهلاك‏..‏

أما الحرية الوحيدة الممكنة فهي الحرية التي تتم بناء علي تخطيط وتقسيم وتنظيم‏.‏

الفلاح يوفر لك القمح‏.‏

والطحان يطحنه‏..‏ والخباز يصنع منه خبزا‏..‏ والطابونة توصله الي بابك‏..‏ وفي مقابل هذا تكتب مقالات وتؤلف كتبا‏..‏ أو تفتح عيادات وتعالج المرضي‏..‏ والحكومة تدخل لك النور والمياه وتنقل لك البريد فتدفع لها ضرائب‏..‏ وتتطوع في الجيش‏.‏

شركة مساهمة يدخل فيها كل واحد بقسط‏..‏ وفائض الأرباح يتحول الي مزيد من الحرية للمجتمع‏.‏

كل ما يصنعه الغير تجده في خدمتك وتحت تصرفك‏..‏ لو أنك فكرت الآن في السفر إلي ألمانيا فإنك سوف تجد تحت تصرفك طائرات‏..‏ وسكك حديدية سريعة وبواخر‏.‏

وستجد أنك أكثر حرية‏..‏ وأكثر قدرة علي بلوغ رغباتك من أيام زمان‏..‏ أيام كان أجدادك يسافرون علي أقدامهم وستجد أنك تملك الأدوات رهن إشارتك‏.‏

وراء هذه الحرية التي تتمتع بها دون أن تشعر تختفي جهود الملايين‏..‏ جهود العلماء والمفكرين والاقتصاديين الذين صنعوا الطائرة والقاطرة والسفينة‏..‏ والاقساط التي دفعها أجدادك من حريتهم‏.‏

أنت تجني أرباح الشركة التي اسمها المجتمع‏..‏ وتكسب أضعاف الاقساط البسيطة التي تدفعها‏..‏ ومعها ثمار كل الاقساط التي دفعتها الإنسانية علي مدي التاريخ‏..‏

أنت وارث شرعي للحضارة والمدنية والعلم وكل ما يطالبك به المجتمع مقابل هذا الميراث العريض‏..‏ هو قسط رمزي من حريتك ومع هذا فأنت تصرخ من هذا القيد البسيط‏..‏ وتنسي هذه البحبوحة من الحرية والمتعة التي تكسبها في مقابله‏..‏ لأنك سندباد‏..‏ مازلت تفكر بعقلية بدائية‏..‏

والرأسمالي الذي يرضي أن يساهم في بناء المجتمع بقسط من ثروته سندباد‏..‏ يفكر بعقلية الغابة‏..‏ ويظن أنه يعيش وحده‏.‏

والحل الوحيد الذي يلجأ إليه المجتمع ليرد هذه المخلوقات البدائية إلي عقولها‏..‏ أن يعاملها بالمثل‏..‏ أن يقطع عنها خدمات الخباز والعامل والفلاح ويقطع عنها النور والماء ويعيدها الي الغابة لتعيش بين الثعابين والوحوش وتبيت وحيدة علي شواطئ المستنقعات‏..‏ كما كان يفعل السندباد‏..‏ وتجرب حريته الخرافية‏..‏

مجلة الشباب .. عدد ـ 1/11/2003