المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اريد ولكني لا استطيع .. انيس منصور


طمطم22
06-25-2007, 01:36 PM
أريد ولكني لا أستطيع‏!!
http://shabab.ahram.org.eg/Ahram/2004/2/1/ANEES.jpg

بقلم‏:‏أنيس منصور

الآن فقط عذرت كل الذين انفتحت لهم طاقة القدر وأتيحت لهم فرصة العمر أن يطلبوا من الله شيئا ولكن الصدمة الباهرة أفقدتهم القدرة علي النطق‏,,‏ أو القدرة علي أن يرغبوا في شيء‏,‏ واغلقت أمامهم‏,‏ وفي وجوههم‏,‏ ودونهم طاقة القدر‏,‏ واظلم كل شيء‏,‏ ولم يتحقق لهم شيء‏..‏ لأنهم لم يطلبوا شيئا‏.‏

وعذرت الذين كسبوا مليون جنيه‏,‏ ثم ماتوا من شدة الفرحة‏,‏ كأنهم خسروها لا كسبوها‏..‏

انها ـ اذن ـ المفاجأة لا تقوي مشاعرنا علي مواجهتها‏,‏ أو الوقوف أمامها‏,‏ أو الصمود الوجداني لها‏..‏

انني أحاول أن أصف شعوري‏,‏ وقد تهيأت للحج‏,‏ وأحرمت‏,‏ وتعريت‏,‏ وتجردت‏,‏ وأحسست ببرودة النهار والليل‏,‏ وخفت من كل أمراض الدنيا‏,‏ وأعددت لها كل ما اخترعه الطب الحديث‏,‏ وعلم النفس القديم‏..‏

وأقمت من نفسي درعا من لحم ودم‏,‏ ودرعا آخر من الارادة واللاارادة حتي لا أنهار جسميا ومعنويا‏..‏

انني كالذي يريد أن يقفز قناة واسعة عميقة‏,‏ ولذلك يحاول أن يتراجع إلي الوراء قبل أن ينطلق فوقها‏..‏

انني أحاول ان أرجع الي سنوات مضت عندما ذهبت إلي القدس‏,‏ ووقفت أمام حائط المبكي‏..‏ ألعن الذين أقاموه والذين عبدوه‏,‏ وأحسست ان هذا الذي آراه يحسدني عليه ملايين اليهود في العالم‏!!‏

وتمنيت لو ان قلوبهم ظلت موجوعة متمزقة علي هذا الذي رأيت ولم يروه‏..‏

ولكن الحائط وتاريخه‏,‏ ودموع المؤمنين به لم يهزني قدما‏,‏ ولا ساقا‏..‏

وقبل ذلك‏,‏ رأيت‏,‏ ومشيت في الطريق الذي سار فيه المسيح عليه السلام‏..‏ طريق الآلام‏...‏ يحمل صليبه ويتهاوي تحته‏.‏

ورأيت المهد الذي ولد فيه المسيح‏,‏ ورأيت الجبل الذي ألقي فيه موعظته الأخيره‏,‏ ورأيت الحديقة التي تناول فيها المسيح عشاءه الأخير‏..‏ وخانه أشد الناس حبا له‏,‏ وباعه بفلوس معدودة‏..‏

واهتز قلبي حزنا علي الرسول الذي جاهد من أجل كلمة الله‏..‏ ورأيت معبد النور في طهران‏..‏ ودخلت ورأيت سراجا منيرا محاطا بزجاج‏,‏ وقال لي الراهب‏:‏

هذا النور أبدي‏!!‏

وضحكت كيف يكون النور أبديا‏..‏ وأنا أستطيع ان أخمده بنفخة من أنفي‏,‏ واي طفل يفعل ذلك‏,‏ وكيف أعبد سراجا صنعه إنسان‏,‏ ووضع حوله الزجاج‏,‏ وتحته الزيت؟‏!‏

إن النور الذي يجب أن نعبده هو الذي وراء كل شيء أمامنا‏,‏ ووراءنا‏,‏ وفي نفوسنا‏..‏

إن النور الأبدي هو الله‏..‏

ورأيت معبد زرادشت ورأيت معبد بوذا وكونفشيوس‏..‏

وفي مدينة كيوتو باليابان دعاني أحد الأصدقاء لأري أحدث ما اهتدت إليه العبقرية اليابانيه في العبادة‏..‏

فهم في اليابان يعرفون أنهم مئات الملايين‏,‏ اليوم وغدا‏,‏ وليس في الإمكان ان يذهبوا جميعا إلي المعابد في وقت واحد‏..‏ في أي يوم من أيام الأسبــوع‏.‏ ولذلك فـــــإن كل واحد منهم أقام معبدا في ركن من أركان البيت‏..‏ يتوجه إليه‏,‏ ويصلي فما دام الله في كل مكان‏..‏ ففي الامكان أن يصلوا له في أي مكان‏..‏ في السيارة‏..‏ في الطيارة‏..‏ في ركن من اركان البيت‏..‏ أي بيت‏..‏

وسألوني‏:‏ ما رأيك؟

ورأيت مئات الألوف يتمرغون في طين الأنهار المقدسة‏..‏ ورأيتهم يصبغون بالدم وجوههم‏,‏ ويحرقون بالنار أصابعهم‏..‏ كل ذلك عملا بالحكمة القديمة‏:‏ ان اسرع طريق إلي الله هو الألم‏!‏

ولكن‏..‏ أي إله‏,‏ وأي طريق‏,‏ وأي ألم؟‏!‏

ورأيت أحد الآلهه‏,‏ وجلست إليه‏,‏ وشربت معه‏,‏ وتحدثت‏,‏ وانتقلت منه عدوي الانفلونزا إلي‏,‏ وهنأني وزراء الدلاي لاما علي هذا الشرف الذي لم ينله أحد من قبل‏!!‏

انهم يعاشرون هذا الإله ليلا ونهارا‏,‏ ولكنه لم يتفضل عليهم بعطسة‏!‏ واحدة‏..‏ بسعال‏,‏ أو التهاب رئوي‏!!‏ ولكنني أنا الغريب القادم من بلاد بعيدة قد حباني بهذا الالتهاب في أنفي وفي حلقي‏,‏ وهذا الوخز في جنبي‏..‏ فشكرا لقداسته علي ذلك‏!!!‏

انهم هم الذين يشكرونه بالنيابة عني‏!!‏

أين هذا كله مما أنا فيه؟‏!‏

لقـــد ابتعدت جسميا ونفسيا عــن هذا الفيض‏,‏ والذوبان والتذويب لكل ما حولي‏,‏ أو علي الأصح هذا التذويب لكلي أنا‏,‏ وما حولي كله‏..‏ إلي آخر المفردات التي يستخدمها من يذهب إلي بيت الله الحرام‏..‏

مثلا‏:‏ الطواف‏,‏ والسعي‏,‏ والدعاء‏,‏ والوقوف‏,‏ والافاضه‏,‏ والنفرة‏,‏ والرمي‏..‏ وكلها مفردات تدل علي ان قوة إنسانية تندفع‏..‏ أو علي أن قوة روحية تدفع هذا الانسان معا‏..‏ أي مع الملايين حول شيء‏,‏ وإلي شيء‏..‏

ان الديــــن يطلب مــن كــــل مؤمن ان يطيع‏,‏ وأن يكون معا‏,‏ وأن يتجه إلي الله‏.‏ وكل شيء يراه‏,‏ أو حوله ليس إلا رمزا إلي معني‏..‏ وهذا المعني قد نبه إليه الرسول من أجل ان يتحقق الخير العام لكل الناس‏.‏

وكل الناس معناها‏:‏ كل الناس من كل لون‏,‏ وسن‏,‏ وأرض‏,‏ وثوب‏,‏ وموقع‏,‏ ومركز‏,‏ ويجب الا يكون هناك لون أو ثوب‏,‏ وألا يكون هناك شيء يميز أحدا عن أحد‏,‏ فالناس أمام الله سواء‏..‏ كلهم قلوب تدق أو لاتدق‏,‏ أما أجسادهم‏..‏ أما عقولهم‏..‏ أما أرضهم‏..‏ أما لونهم‏..‏ فإن هذا لايهم‏!!‏

إن كل هذا الذي أقوله لم يستغرق إلا دقائق‏,‏ ولكن كم من الساعات عشت لكي أري‏,‏ وكم من الأيام رأيت لكي أعيش ساعة‏,‏ أو أقل من ساعة؟‏!‏

ان ملايين الناس قد زاحموا‏,‏ وترافعوا أمواجا يدوس بعضها البعض ـ وأحيانا يقضي بعضها علي بعض حتي أصبح مايشغل الناس هو‏:‏ كيف يقفون ليروا‏..‏ أو كيف يرون مكانا يقفون فيه‏,‏ واذا وقفوا ان يمدوا أعينهم‏,‏ أو أيديهم‏..‏ ليتأملوا أو يقولوا شيئا‏..‏

إنني لا أدعي أنني أمضيت الأيام كلها أتأمل في خلق الله‏..‏ في نفسي‏,‏ أو في غيري‏..‏ فإنني لم أكن سعيدا إلي هذه الدرجة‏,‏ ولكن سرقت من الناس ساعات قليلة‏,‏ وحاولت ان أجعل احساسي بها مكثفا‏.‏ حاولت ان أنفذ إلي أبعد وأعمق‏.‏

ولا أدعي ـ أيضا ـ أنني وصلت إلي شيء‏..‏ فإن الذي أستطيعه قليل جدا‏,‏ والذي أريد أن أعرفه كثير جدا‏..‏ ان عمري قصير‏..‏ وعمر الانسانية كلها قصير‏..‏ وهذا العمر القصير لا يتسع لكل ما أريد‏,‏ ولذلك فإن القليل الذي أعرفه قد أراحني بعض الوقت‏,‏ والكثير الذي لا اعرفه قد عذبني معظم الوقت‏,‏ ولا يزال‏,‏ فاللهم أعني علي نفسي حتي أعرف أكثر‏,‏ وأستريح اكثر‏..‏

إن دهشة الناس عندما يرونني حائرا‏..‏ ضائعا‏,‏ أو أكثر حيرة‏,‏ أو أكثر ضياعا‏,‏ لا يفوقها إلا حيرتي أعمق مما يرون‏,‏ وعذابي أفدح مما يتصورون‏..‏

إن كــــل شيء حولي يقول‏:‏ إن كل الناس حولي يصرخـون ويلهثون وهم جميعا مفردات طائشة ملتاعة في كتاب مفتوح‏..‏ ان عذابنا لاحد له‏,‏ ولكن اكثر هذا العذاب من أنفسنا‏..‏ فنحن بعيدون عن أنفسنا‏,‏ ولو نظرنا إلي أنفسنا ما كان حالنا هكذا‏..‏

والله يقول‏:‏ وفي أنفسكم أفلا تبصرون‏..‏

وهذه مناسبة طويلة عريضة لأن نعيد النظر إلي أنفسنا لنعرف أين الانسان من الشيطان‏,‏ أين الانسان من الله؟‏!‏

إن زحام الناس علي رجم الشيطان شيء عجيب‏..‏

ان الشيطان ليس أمامنا فقط‏,‏ انه ليس هناك‏,‏ انه في نفوسنا‏,‏ وليست هذه الاحجار إلا رمزا‏..‏ ان الذي رأيناه في نهاية الحج يستحق ان نكرره بعد ذلك‏,‏ بشرط أن نرجم أنفسنا‏..‏ فكلنا لبعض شيطان‏,‏ أو كلنا هذا الشيطان؟‏!‏

هل قلت شيئا؟‏!‏

انني أحاول أن أبتعد لأري أوضح‏..‏

انني كالذي يخاف أن يفتح عينيه علي قرص الشمس‏,‏ ولذلك أحاول أن أنظر إلي الظلال‏,‏ وأتحسس الدفء‏,‏ أو أنظر إليها ببعض عيني وقد ارتسمت علي الماء‏..‏

انني أخشي أن أفتح فيها عيني‏..‏ فأفقدهما إلي الأبد‏..‏

والذي يعزيني عن هذه المحاولة‏..‏ إنني عندما أتجه الي الله‏,‏ فإنني آراه بلا عينين‏,‏ واسمعه بلا أذنين‏,‏ وأحج إليه في أي وقت‏,‏ وفي أي مكان‏..‏

انني الآن أعذر ذلك الأغريقي الذي حكمت عليه الآلهة بأقسي وأقصي درجات العذاب‏..‏ ذلك المسكين تنتالوس الذي وضعوه في بحيرة من الماء العذب‏,‏ وسلطوا عليه الشمس‏,‏ وكلما احتاج إلي الماء ارتفع الماء حتي شفتيه‏,‏ وكلما أحني رأسه ليرتشف الماء‏..‏ انحسر الماء‏,‏ وظل الماء يعلو ويهبط دون ان يذوقه إلي الأبد‏!‏

إن شيئا من ذلك أشعر به‏..‏

كل شيء حولي يقول‏..‏ ينطق‏..‏ يضيء‏..‏ يظهر‏,‏ وأنا هكذا مغمور بلا أطراف‏..‏ لا أستطيع أن أمد عينا‏,‏ أو يدا إلي شيء‏..‏ حتي الكلمات لا أجدها‏..‏ ان شيئا قد وقع بيني وبينها أو بيني وبين قلمي‏,‏ أو بين قلمي وبين الورق‏,‏ أو كل الأشياء‏..‏ فأنا رأيت طاقة القدر‏!!‏ ولم أستطع أن أفتح فمي‏,‏ وواجهت الشمس ولم أمد عيني‏,‏ أو كأنني حججت بقلبي‏,‏ ولكني لم أر شيئا‏..‏

ولكن‏..‏ عندما أعود إلي حيث أستطيع أن أري أوضح وأسمع أقوي‏,‏ وألمس أقرب‏..‏ وحيث تصطف الكلمات والحروف والنقط في خدمتي‏..‏ هناك أجدني قادرا علي أن أقول‏..‏

فمعذرة أنني أريد وأحاول‏,‏ ولكن لا استطيع‏..‏

فإلي مسيرة في العبارة‏,‏ والاشارة‏,‏ والاثارة‏,‏ والانارة‏..‏

حتي هذا السطر الأخير‏..‏ لم أفقد أملي في أن أحاول‏..‏ حتي آخر نقطة في هذا السطر‏!‏

مجلة الشباب
عدد 1 فبراير 2004‏

__________________