المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الركود الاقتصادي عائدٌ لا محالة ...


eshrag
08-12-2011, 11:10 PM
أظهر النصف الأول من عام 2011 تباطؤاً في النمو الاقتصادي – إن لم يكن انكماشاً بكل ما في الكلمة من معنى – في معظم البلدان المتقدمة. وقال المتفائلون إن هذا كان أداءً ضعيفاً مؤقتاً. لكن هذا الوهم تحطم الآن. فحتى قبل حالة الهلع التي وقعت في الأسبوع الماضي، كانت هناك احتمالات قوية بأن الولايات المتحدة والبلدان المتقدمة الأخرى مُقْدِمة على طور آخر من الركود الاقتصادي الحاد.

كانت البيانات الأخيرة رديئة في الولايات المتحدة: كانت الزيادة ضعيفة في عدد الوظائف الجديدة، وكان النمو الاقتصادي ضعيفاً، وبقي الاستهلاك والإنتاج الصناعي على حاله. وتظل سوق المساكن ضعيفة. كما شهدت ثقة المستهلكين والأعمال والمستثمرين حالات من التراجع، وستتراجع الآن أكثر من ذي قبل.

وعبر الأطلسي، تعاني البلدان الطرفية في منطقة اليورو من الانكماش الاقتصادي، أو أنها في أحسن الأحول لا تكاد تسجل نمواً اقتصادياً يذكر. وهناك الآن خطر كبير للغاية في أن إيطاليا أو إسبانيا – وربما كلاهما – ستخسر القدرة على الاستفادة من أسواق الدين. هذان البلدان، على خلاف اليونان والبرتغال وإيرلندا، يبلغان من الحجم كبراً يجعل من غير الممكن إنقاذهما.

وفي الوقت نفسه، شهدت بريطانيا نمواً فاتراً في الوقت الذي أخذت تبدو فيه آثار التقشف، كما أن اليابان التي تعاني من جمود هيكلي ستتعافى لعدة أرباع – بعد الركود الاقتصادي المزدوج الذي أصابها بعد الزلزال – لا لشيء إلا لتعاود الجمود مرة أخرى في الوقت الذي تتلاشى فيه آثار التحفيز الاقتصادي. وما هو أسوأ من ذلك أن المؤشرات الرئيسية للتصنيع العالمي تتباطأ بصورة حادة – في البلدان الناشئة مثل الصين والهند والبرازيل، وفي البلدان التي تعتمد على الصادرات أو البلدان الغنية بالموارد الطبيعية، مثل ألمانيا وأستراليا.

حتى السنة الماضية كان بإمكان أهل الحل والربط دائماً إخراج أرنب جديد من القبعة لإشعال فتيل الإنعاش في الموجودات (تنشيط الطلب دون تأجيج التضخم) والانتعاش الاقتصادي. وقد جُرِّبت جميع السبل المتاحة، مثل أن تكون أسعار الفائدة الرسمية عند المستوى الصفري، والدخول في الجولة الأولى من التسهيل الكمي، ثم في الجولة الثانية من التسهيل الكمي، وتيسير الائتمان، وبرامج التحفيز من المالية العامة، وتسوير الموجودات، وتقديم السيولة عند مستويات وصلت إلى تريليونات الدولارات، وإنقاذ البنوك والمؤسسات المالية. لكن لم يبق لدينا الآن أرانب حتى نخرجها من الجعبة.

إن القرار القائم على أخطاء في التقدير والذي اتخذته وكالة ستاندار آند بورز بتخفيض المرتبة الائتمانية للولايات المتحدة في وقت يتسم بهذا القدر الحاد من الجيشان في الأسواق ويتسم بالضعف الاقتصادي لن يكون من شأنه إلا زيادة احتمالات الوقوع في ركود اقتصادي مزدوج وحتى الوقوع في حالات أعلى من العجز في المالية العامة. لكن الأمر المثير للمفارقة هو أن سندات الخزانة الأمريكية ستظل على الأرجح أقل الموجودات المأمونة قبحاً في العالم: لأن من الممكن أن يؤدي العزوف عن المخاطر وتراجع أسعار الأسهم والركود الاقتصادي الذي تلوح ظلاله في الأفق، إلى تراجع العوائد على سندات الخزانة وليس ارتفاعها.

إن سياسة المالية العامة تتسم الآن بالانكماش في كل من منطقة اليورو وبريطانيا. وحتى في الولايات المتحدة، فإن الموضوع هو مقدار جرجرة الخطى، في الوقت الذي تقوم فيه حكومات الولايات والسلطات المحلية، والآن الحكومة الفيدرالية، بتقليص الإنفاق، وتقليص دفعات الرعاية الاجتماعية وعوائد التأمينات الاجتماعية، و(خلال فترة قريبة) زيادة الضرائب. لاحظ أن الدخول في جولة أخرى من عمليات إنقاذ البنوك هو أمر غير مقبول من الناحية السياسية. لكن حتى لو كانت مقبولة من الناحية السياسية، فإن معظم البلدان، خصوصاً في أوروبا، تمر بظروف عصيبة تماماً إلى درجة أن المخاطر المحيطة بسنداتها السيادية تؤدي في واقع الأمر إلى مخاطر بنكية – على اعتبار أن خزائن البنوك مليئة بالسندات الحكومية المعتلة.

أما الآمال المعقودة على التسهيل الكمي فإنها مقيدة بالتضخم، الذي يبلغ الآن مستويات تزيد كثيراً على الأهداف المحددة له عبر بلدان العالم الغربي. وهناك احتمال بأن يبدأ الاحتياطي الفيدرالي جولة ثالثة من التسهيل الكمي، لكنها ستكون أقل من اللازم وتأتي بعد فوات الأوان. في السنة الماضية كانت نتيجة الجولة الثانية من التسهيل الكمي بمبلغ 600 مليار دولار (إلى جانب ألف مليار دولار على شكل تخفيضات ضريبية ودفعات عوائد اجتماعية) هي إحداث انتفاخ في النمو الاقتصادي لا يكاد يصل إلى 3 في المائة، وكان هذا لمدة ربع واحد. أما الجولة الثالثة من التسهيل الكمي فسيكون مقدارها أقل من ذلك بكثير، وسيكون أثرها أقل من ذلك بكثير.

لاحظ كذلك أن النجدة لن تأتي من الصادرات. ذلك أن جميع البلدان المتقدمة بحاجة إلى عملات أضعف، لكنها لا تستطيع جميعاً الحصول على عملات ضعيفة في وقت واحد – فإذا كانت إحدى العملات ضعيفة فلا بد أن تكون عملة أخرى قوية. هذه لعبة يربح فيها طرف على حساب خسارة طرف آخر، ولن يكون من شأنها إلا المخاطرة باستئناف حرب العملات. ونشهد الآن بداية المناوشات الأولى في سعي اليابان وسويسرا لإضعاف أسعار صرف عملتيهما. وستحذو بلدان أخرى حذوهما خلال فترة قريبة.

فهل سيكون بمقدورنا أن نتجنب الوقوع مرة أخرى في ركود اقتصادي حاد؟ ربما يكون ذلك بكل بساطة مهمة مستحيلة. وأفضل رهان لدينا هو أن تعمل البلدان التي لم تفقد قدرتها على الاستفادة من الأسواق – الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وألمانيا – على تطبيق إجراءات تحفيزية جديدة قصيرة الأجل وفي الوقت نفسه الالتزام بإجراءات التقشف في المالية العامة على الأجل المتوسط. وسيعمل تخفيض المرتبة الائتمانية للولايات المتحدة على تسريع المطالبات بالتقليص في المالية العامة، لكن ينبغي على أمريكا بصورة خاصة أن تلتزم بالبحث عن إجراء تخفيضات لا يستهان بها على الأجل المتوسط، وليس الدخول في إجراءات مباشرة تؤدي إلى جرجرة المالية العامة وترَدِّي النمو وحالات العجز.

كذلك ينبغي لمعظم البنوك المركزية الغربية تطبيق مزيد من إجراءات التيسير الكمي، حتى ولو أن أثرها سيكون محدوداً. وينبغي للبنك المركزي الأوروبي ألا يتوقف فقط عن رفع أسعار الفائدة، وإنما عليه أن يخفضها إلى الصفر وأن يقوم بمشتريات ضخمة من السندات الحكومية للحؤول دون أن تفقد إيطاليا أو إسبانيا القدرة على الاستفادة من الأسواق، وهو أمر لو حدث فإنه سيشكل أزمة كبرى بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ما يستدعي زيادة موارد الإنقاذ مرتين (أو ثلاث مرات)، أو الاتفاق مع الدائنين على سداد الديون وفق أحكام مختلفة، وتفكك منطقة اليورو.

أخيراً، ولأن هذه أزمة في الملاءة إلى جانب كونها أزمة في السيولة، لا بد من أن تبدأ عملية منظمة لإعادة هيكلة الديون. وهذا يعني تخفيضاً في مبالغ القروض العقارية من أولها إلى آخرها بالنسبة للأسر الأمريكية التي تزيد قروضها البنكية على أسعار مساكنها، وأن تفرض الحكومات على دائني البنوك المعتلة أن يشطبوا جزءاً من قروضهم قبل اللجوء إلى أموال دافعي الضرائب. ولا بد كذلك من تطبيق الإجراءات الخاصة بالتمديد القسري لتواريخ استحقاق السندات، بأسعار فائدة خالية من المخاطر، كما حدث مع اليونان، وتطبيق ذلك بالنسبة للبرتغال وإيرلندا، مع احتمال تطبيق الأمر نفسه بالنسبة لإسبانيا وإيطاليا في حالة فقدانهما القدرة على الاستفادة من الأسواق. ربما لا يكون في الإمكان الحؤول دون وقوع طور آخر من الركود الاقتصادي، لكن السياسة تستطيع الحؤول دون الدخول في كساد ثان. وهذا سبب كاف لاتخاذ إجراءات سريعة نحو أهداف بعينها. الكاتب.نورييل روبيني
رئيس مجلس إدارة روبيني جلوبال إيكونومِكس، وأستاذ في مدرسة شتيرن في جامعة نيويورك، ومؤلف مشارك لكتاب بعنوان ''اقتصاديات الأزمة'' Crisis Economics