المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ماتتلوه الشياطين


غادر
09-17-2011, 08:23 PM
انعقد لساني وتثاقل، فصرت بين عشية وضحاها ألثغ ومتأتئا، يتشنج لساني في لحظات الذروة، ويعجز فمي عن جرجرته، وكأني أحاول في صالة المطار سحب حقيبة تلفت عجلاتها. استعنت بصديق وطبيب وكبير سن؛ فأجمعوا على أنه ضغط نفسي وسيمضي، وصرف لي الطبيب حبوبا منشطة وأوصاني بالاسترخاء. لم أقنع بالنصيحة الباردة وأجريت مكالمات هاتفية متعثرة ومغتمّة مع عدد من الأصحاب، واستخلصت منها ما كنت أشك فيه فعلا: أنني معيون أو مسحور وعليّ أن أبحث عن غريمي. وكان لا بد أن أتذكر شجارا جرى بيني وبين زميل في المكتب وشتائم تبادلناها، وكان من بينها أن أوعدني أنه سيقطع لساني. قلت في نفسي: أجرب النصيحة الأولى، فإن فشلت لجأت إلى أهل الخبرة بالأعمال الشيطانية. ابتعدت عن المكتب والبيت، واستأجرت غرفة في فندق ورود الشروق، وأرحت نفسي بوجبتي البوفيه المفتوح وبالإفطار الذي يأتيني بطرقة خفيفة من وراء الباب وسط الروائح المنعشة للأرضية الصقيلة. ومضت أيامٌ لم تأتني بطائل ولا أطلقت حصاني من عنانه. فصليت العصر عند شيخ معروف بنزاهته وتقاه، وشرحت له أمري فتأثر بالأمر، ونقلني إلى مختصر خصصه لهذه الأشياء، غرفة انتظار عادية مصفوفة بجوالين الماء وزيت الزيتون وخلافه. تؤدي إلى غرفة داخلية أضيق، تقتنص العين من بابها -عندما يفتح- أربطة وكلاليب ومستحضرات أخرى غامضة، وهي غرفة القراءة. وكان في الانتظار معي رجل، وفتى، وامرأة كبيرة مجللة بالسواد يصحبها ابنها البكر. وتعارفنا لتزجية الوقت: الرجل يعاني من الحصر عن زوجته، والفتى هو الابن الأصغر للشيخ، ومعه قرين قديم، أسلم القرين على يد والده، وأصبح يحاور المردة والشياطين الذين يتعلقون بالمرضى، وينقل أخبارهم على لسان الفتى إلى الشيخ. المرأة مترملة منذ عشرين عاما وبلغت سن اليأس، ومع ذلك لا يزال ثدياها يسيلان بالحليب الساخن الطازج، ولا مفر لها من عصره في الأواني، وربطه يتسبب لها بمضاعفات قد يكون السرطان من بينها، وأنا وحدي الجديد. عندما عرفت بنفسي تحدث القرين المصاحب للفتى قائلا:
هل تذكر عزيمة دعيت إليها في مزرعة بالمنطقة الشرقية؟
قلت: ن، ن، نعم.
قال: وهل تذكر أنهم قدموا لك تمرا وقشطة؟
قلت: ن، ع،ـعم.
قال: رجلان طويلان، وآخر متوسط، وكلكم متقاربون في السن؟
قلت: ن، ن، عم، أولئك ك، كه، كانوا ز،ز، م،ـملاء د،دراسة.
قال: البلوى في القشطة، وقد تغلغلت في جوفك.
خرج الشيخ بعد أن فرغ من الحالة التي لديه واستدعى باقي الحالات فدخلتْ وخرجتْ تباعا. وعندما لم يبق إلا أنا والفتى الأسطوري قال لي القرين المصاحب له:
لو أخذوا بمشورتي لشفوا جميعا.
قلت و، وم،ماااا م،م،مشورتك؟
قال: نصحت المرأة أن تعتبر مصيبتها نعمة، وتتبرع بالإرضاع في دور الأيتام.
قلت مذهولا: والر،ر،جل ااالمـ،محصور؟
قال: هو مصاب بالجفاف، وليس عليه إلا أن يتزوج المرأة المصابة بالرطوبة فيحصل لهما التوازن المطلوب.
قلت: وبم،ام، امم،ـماذا ته، ت،ـتنصحني؟
قال وعيناه معلقتان بسقف الحجرة:
سأكلمك بعد أن تخرج من عند أبي.
دخلت، وقرأ علي الشيخ آيات السحر والعين، واخترق عيني بإبهامه وهو يحدق فيّ بشدة، وهو يقول: إذا لاحظت أي شيء فأخبرني، حكة، أو قشعريرة، أو صداعا، أي شيء.
واستمر يقرأ وإبهامه يخترق عيني اليمنى، فانتابتني غفوات متعددة أثناء القراءة.
اعترف لي بأنه لم يظهر له شيء، وصرف لي ثلاث قناني ماء مقروءا فيها، وأخرى من ماء السدر، وزيت زيتون، وقال:
اشرب من ماء السدر فنجانا على الريق، واغتسل به ثلاث مرات، واشرب من الماء المقروء فيه، وادهن جسمك بزيت الزيتون ما عدا أظفارك.
قلت: ولم،ماذا؟
قال: إذا كان معك قرين فسوف يخرج من الأظفار.
وتنهد ثم أضاف:
وإذا شئت حلا أفضل، فاعتكف معي في المسجد أسبوعا، عسى أن أكشف سر مصابك.
وعندما خرجت قال لي القرين على لسان ابنه: وصيتي لك ألا تحاول معالجة عاهتك، فرب آفة في طيها نعمة.
قلت له: وه، و، وأي ن،ن،نعمـ،مـة في الخه،ـخرس؟
قال: انظر إليّ مثلا.
قلت: لاه ل،لم أفـ،ـهـم.
قال: سأضرب لك مثالا آخر، جاءنا رجل يعاني من عفريت شعر، يجري القصائد على لسانه من غير اختياره، وقرأ عليه أبي، ولما شفي نضبت قريحته الشعرية، وفقد مصدر رزقه واشتهاره.
تجاهلت كلامه، وملت إلى اقتراح والده علي، وبدأت الاعتكاف في المسجد، بيد أن معرفتي بمسائل الاعتكاف نغصت علي المشروع، فهذا ليس رمضان، إضافة إلى أنني سمعت الألباني يقول إنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، أو هكذا يخيل إلي.
قطعت الاعتكاف ورجعت إلى غرفتي في وردة الشروق، وبعد يومين من التململ دفعت الحساب وسجلت خروجي ومضيت إلى بيتي، وبقيت عقدتي معي، وأثناء مراجعاتي للشيخ وقراءاته أخبرته عن قصتي مع غريمي، فعاتبني من أجل تأخري في إبلاغه، ونصحني أن أتسلل لمكتبه وأسرق من أثره شيئا. وهكذا جرى:
تسللت إلى جهازه ومسحت فأرة الكمبيوتر بمنديلة مبلولة وحملتها إلى الشيخ، فبللها، وغسل يدي بها، وقال:
- إن كان الشر من غريمك فقد شفيت إن شاء الله.
لكنني لم أشف، وأتعبت شيخي بترددي وشكواي المتكررين، وفي لحظة من التجلي سألني عن حالي مع الله وأرحامي ووالدتي، وأخبرته بلا أدنى مواربة؛ فتنبأ لي بأن تسلط الشياطين علي إنما جاءني من تقصيري في صلاة الفجر والجماعة، ومن قطيعتي لرحمي، وضعف عنايتي ببر والدتي، وتابع: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفهسم.
وفي كل مرة أخرج من عنده كان ابنه المسكون يشيعني بعبارة وحيدة:
- لا مفر من المكتوب، ورب آفة في طيها نعمة.
انقطعت عن مجالس القراءة، وأترعت نفسي الكآبة، وتخليت عن أحلام البيان وطلاقة اللسان، ومحوت من ذاكرتي مجالس السمر والنكات، واختليت للكتابة والبحث والتدوين في أحد المجالات النادرة، واعتزلتني زوجتي وانشغلت بمشاويرها، واعتزلني أولادي، وانصرف أقاربي وأصدقائي عن ملاقاتي، فانغمست أكثر وأكثر في هوايتي الجديدة، وانتشرت كتاباتي واشتهرت وأصبحت ممن يشار إليهم بالبنان، وكاد نجمي يتعلق بقناديل البيت المعمور. ودرّت علي كتبي دخلا وفيرا فتخليت عن وظيفتي. ثم سمعت عن وفاة أحد رجال المزرعة الذين قدموا لي القشطة المسمومة، فحضرت جنازته بلا أدنى ذرة من شماتة، واجتمعت بالرجلين الآخرين وكلّي محبة وسلوان، لم أبحث في عيونهما ولا فلتاتهما عن أي أثر للماضي، ومرت ليلتنا على أحسن ما يرام. وعدت إلى البيت مضعضعا من طول وقوفي في مراسم العزاء، وأخذني النعاس، غبت في عالم من الدنا المختلطة، وتعاقبت في اللوحة المغبشة وجوه لأصدقاء وأعداء وأناس عابرين، ثم، شيئا فشيئا، تبدد الضباب وانجاب المنظر عن خلفية زرقاء يتوسطها رجل وحيد أعرفه جد المعرفة، رأيت صاحبي الميت وهو يلوح لي مبتسماً.
صحوت وقد انعقد لساني تماما، وقد استكملتُ رحلة الخرس ووصلتُ إلى نهايتها، بعد زمن طويل قضيته في عثرات اللثغات والتأتآت، ورغم أنني لم أتيقن من صدق منامي العابر إلا أنني لم أجد أي أثر للألم في نفسي، وإنما شعرت بمزيد من الرضا.
منقوول