المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نقطة تحول


اشراق العالمrss
02-11-2009, 04:57 PM
نقطةُ تحوُّل.. !!

التّجديدُ أهمُّ عنصرٍ من عناصرِ الشِّعورِ بالحياة، فكيفَ لبركةٍ من الماءِ أن لا يأسنَ ماؤها إلاّ بتجدّد هذا الماء، وتبدِّلهِ بماءٍ آخر؟! هكذا هي حياةُ النّاس ..! التّجديدُ يُضفي حياةً أخرى قد تختلفُ كليَّةً على الحياةِ السَّابقة .. حياةً قد تنفصلُ في شكلها ومضمونها عن حياةٍ سابقة .. وما ذلك إلاّ لأن أصحابها وقفوا عند نقطة تحوُّلٍ، وقرّروا أن يغيِّروا تاريخهم، بعد وصولهم إلى مرحلةٍ من المراحل .. ولم يكونوا محتاجين سوى لتحليلِ وضعهم، تحليلاً عقلياً، وحقَّقوا التوازن الدقيق في أمورهم على شاكلةِ قول المتنبي:

ووضعِ الندى في موضع السيفِ بالعلا ..
مضرٌ كوضعِ السيف في موضع الندى ..!


أمّا من ارتضى سكونيَّةَ الحياةِ، وهمود الرُّوتين اليوميِّ الرّتيب، وجريانِ الأحداثِ في مسارٍ لا يتغيَّر ولا يتبدّل فذلك إنسانٌ راكدُ العقلِ، آسنُ الفكرِ، ميِّتُ النفسِ، خاملُ الجسدِ، مهزومُ القرارِ، لا يعيشُ إلاّ ليأكل، يقودهُ جسده في كلِّ مكانٍ لأنّ الجسدَ قد تعوّد الطّرق ذاتها، ولا يتحرّك دماغه، فهو لا يستفزّهُ بأسئلةٍ، ولا يوقفهُ عند قرارات حازمةٍ، صارمة ..!!

سألتُ أحدَ الشَّبابِ وقد كنتُ أعهدهُ في مرحلةٍ مبكِّرة من التعليم صبيّاً مجتهداً، مثابراً، سألتهُ وهو يعملُ في وظيفةٍ زهيدةٍ، متواضعةٍ، وكنتُ أشهدُ عملهُ في شركةٍ كبرى وقضى ردحاً من الزّمنِ فيها مثابراً ثم حينما ابتعثَ إلى الخارجِ سوّغت له نفسه أن يتركَ الأهدافَ الكبرى إلى أهدافٍ دُنيا، وغاصَ فيها، حتى وجدَ نفسه وقد أُعيدَ بعد أن أقيل .. وها هو يعملُ في وظيفةٍ مملّة .. سألته: هل لديك فكرةٌ لتنتقل إلى عملٍ آخر ..؟ لكنَّ إجابتهُ أبانت عن نفسهِ الخاملةِ، الهامدة.. قال: أنا راضٍ بالوضع، فنحنُ بطبيعتنا كسالى، نحبُّ الإجازات، وهذا العمل يمنحني الإجازات الكافية ..!!

لقد حكم على نفسهِ إذنِ بالتقوقعِ في دائرةٍ يوميَّةٍ مكرورةٍ، لا جديدَ يثيرُ فيها حِسَّاً، ولا لونَ يضيفُ إليها بُعداً ..!! وعلى النقيضِ من هذا أخبرني صديقٌ بأنّه وصلَ إلى مرحلةٍ ما فشعرَ بأنّه لم يعد لديهِ ما يضيفه لعمله ، أو لحياته ، فقرَّر أن يواصلَ دراستهُ كي يغيِّر وضع مسارهِ اليوميِّ ، وطبيعةَ عمله، وها هو الآنَ يتبوأُ مكانةً مرموقةً بسببِ هذا القرار .. وكتبَ إليَّ صديقٌ إنجليزي ردّاً على رسالتي التي أستفسرُ فيها عن أخباره بعد أن كنتُ أعيشُ معه منذ أكثر من ثمانيةَ عشرَ عاماً .. قال: لقد قرّرت أن أغيَّر حياتي بتغيير مهنتي، فقد كنتُ أعملُ في مستشفى لذوي الإعاقات .. عدتُ إلى الجامعة ودرستُ نظم المعلومات، وأخذتُ العديد من الدورات، وأنا الآن أرأس فريقاً وأُؤلف كتاباً حول الحاسب الآلي ..!! فرقٌ بين هذينِ وذاك .. ذاك يحبُّ عملاً فيه إجازات .. ويدعو ربّه "اللّهم لا تغيَّر عليَّ عملي حتى لا أصابُ بصدمةٍ عصبيَّة..!" وهؤلاءِ الذين وقفوا عند نقطةِ تحوُّلٍ فقرّروا أن تتغيَّر حياتهم عندها ..!

وعلى ذاتِ الشاكلةِ أناسٌ يستهويهم التكرار، والمضيِّ على ذاتِ النّسقِ ليلَ نهار، وهؤلاء كالقائلين "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ "الزخرف/23 ، فحياتهم رتمٌ واحد، دورةٌ مكرورةٌ، لا يفكرّون في تغييرها .. لا يسألون أنفسهم لم يسلكوا ذات الطرقِ يوميّاً، لم لا يغيّرون؟ لا يفكّرون في طريقةِ إنجازِ أعمالهم؟ لم لا يغيّرون من عاداتهم التي اعتقدوا أنّها هي الصواب، وترسّخ هذا الاعتقادُ في أنفسهم، ومضوا عليه ، دون تفكيرٍ ؟ لم لا يغيّرون من هيئاتهم، إذ كيف سيظهرون لو أنّهم غيروا في ملبسهم - غير متجاوزين للأعراف الاجتماعية - فكم من ملبسٍ هو أجدى وأسترُ من ملبسٍ آخر، لكنّهم يرفضونه بحجّةٍ أنّ سلفهم كان يلبسه، لكنَّ السلف كانت له ظروفه الاجتماعية والاقتصادية والعملية، وهم لهم ظروفهم المختلفة .. فلم لا يفكرون ؟!! أناسٌ لا تزالُ منذ أن أدركت الرّشد تمضي إلى خيّاطين، وحلاّقين معيّنين .. ماذا لو غيّروا ..؟! يترددون إلى ذات الأماكنِ، يزورون نفس الوجوه، يردِّدون نفس العبارات، يمارسون نفس الأنشطة اليوميّة، يؤدون نفس الأعمال، نفس الهوايات، ماذا لو بدّلوا ..؟! أناسٌ يقضون الصلاة كما تعلموها من آبائهم، فماذا يضيرهم لو بحثوا، وغيّروا بعض العبارات التي هي أجدى من بعض، أو أضافوا أدعيةً، أو أحلّوها مكان أدعيةٍ ..؟! أناسٌ تلبّثوا بفتوى معيّنةٍ - في معاملاتِ الحياةِ ، وسلوكيات الإنسان وليس في العقيدة - ومضوا عليها ، وتغيّرت الحياةُ ، وتبدّلت ظروفها وهم متمسّكون ، ولربّما صاحبُ الفتوى ذاته قد تراجعَ عنها، وبدّلها وهم لا يعلمون لأنّهم لا يريدون أن يعلموا الجديد ..؟! نعم ليس المعنى هنا أن الفتوى تصاحب بالضرورة التطوّر فالثوابتُ لا جدلَ فيها، ولكني أقصدُ أن يطّلع الإنسانُ على الأمور لتتضح أمامه، فلا يحلُّ محرّماً، ولا يحرّم حلالاً بحجّةِ عدم التغيير..!

إن نقطة التحّول وحدها مفصلُ التجديدِ في حياةِ الإنسان، وهي ليست بالضرورة نقطة تحوُّلٍ مفصليِّ كبير .. بل قد تكون نقطة تحوُّل بسيطة، لكن أن تملأ نقاط التّحوُّل المعاش اليومي في أشياء صغيرة، فمن شأن ذلك أن يبعد ما يسمى"الملل" ويطرد "الاكتئاب" .. فما مشاكلُ الانكفاءِ، وانحسارُ الإبداعِ، ونضوبُ التفكيرِ إلاّ نتائج للروتين المكرور ..! كتبَ هنري ديفيد ثورو " إن ألف ضربةٍ لقطعِ أغصانِ شجرةِ الشرِّ تعادل ضربةً واحدةً لقطع جذورها..!!" وهذا لا يتمُّ إلاّ بنقطةِ تحوُّلٍ جادةٍ، تبرهنُ على قدرة الذات على إحداثِ التغيير على منهج قوله تعالى "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ "الرعد/11..

والنّاس تشتكي من سرعةِ تقادمِ الأيامِ، ومرور السنين لأنّهم يعيشون الرّوتين اليومي الاعتيادي الذي لا جديد فيه ..! أمّا لو صاحبه التغيير المستمر، ولازمه التجديد الدائب فلن يشعروا بذلك .. وحين يذهبُ المرءُ إلى مكانٍ ما لأول مرّةٍ فإنه يجدُ المسافةَ بعيدةً، والزّمنَ بطيئا، أمّا حين يعود فالمسافةُ قصيرةٌ، والزّمنُ سريع .. فكيف ذلك؟ في الحقيقة لا المسافة ولا الزّمن قد تقلّصا وإنّما السبب وراء ذلك، أن في الذهابِ تغييرا ، واكتشافا جديدا ، أما في العودةِ فلا جديدَ في المسافةِ والأمكنةِ عندها يمضي الزّمنُ سريعاً والمسافةُ تتقلَّص وهذه كلّها معالجاتٌ عقليّة ليس إلاّ ..!

إن أغلب النّاس لو طرحوا عنهم الرّوتين اليومي الممض ، لو سألوا أنفسهم لم أفعلُ ما أفعلهُ منذ سنوات ، لم أتمسّك بهذه العادةِ ولا أغيّرها ، لم هذا اللّبس دون سواه، لم هذا الرأي دون غيره، لم هذا الصديق دون آخر، لم هذا الطريق دون بديله، لم هذه الهيئة دون غيرها .. لو سألوا أنفسهم لوجدوا إجابات قد تعزّز ممارساتهم، أو تغيّرها ..! إنّما الهدفُ من وراءِ ذلك هو السؤال الدائم الذي يقف وراء نقطة تحوُّل .. يروي ستيفن كوفي نصيحةَ والدٍ لولده بقوله "أي بنيَّ، لا تعيش حياةً كالتي عشتها، إنني لم أفعل الشيء الصحيح تجاه والدتك، ولم أحدث تغييراً حقيقياً، أي بني عدني بأنك لن تعيش حياة كالحياةِ التي عشتها" .. فكم من آباء لدينا يقولون لأولادهم " نريدكم أن تكونوا مثلنا" ولا يقولون لهم "نريدكم أن تعيشوا حياةً أفضل منّا" ..؟!

في نقطةِ تحوُّل تتغيّر فيها شؤونٌ، أمورٌ تجدّدُ من حياةِ الإنسانِ ، وخيراً له أن تكون "نقطة التّحول" هذه إيجابيّة وليست سلبيّة، الفرق هنا، أن التّحول الإيجابي يقوده العقلُ والعاطفة، أمّا السلبي فتقودهُ العاطفةُ والشهوة الإنسانية التي لا يحكمها عقل، ولا يقودها فكر ..! فلا ينتظرُ الإنسانُ الأزمات والعقد والمصائب كي تُملي عليه نقطة تحوُّله بل أن يبادر هو بالتغيير فليس "هناك أقوى من فكرةٍ قد آن أوانها" كما يقول فيكتور هيجو.



-----------------
منقوول بقلمــ
صالح الفهدي