Fares-M
11-29-2016, 08:26 PM
مزاعم الكذبة والمفترين على ديننا وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا تنتهي، فمنذ أن بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم بدأت هذه التهم والافتراءات الكاذبة، فاتُّهِمَ بأنه ساحر، وأنه مجنون، وليس هذا بجديد، فقد نال إخوانه الرسل من قبل مثل هذا، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}(الذاريات: 52)، قال ابن كثير: "يقول تعالى مُسَلِّيَاً نبيه صلى الله عليه وسلم: وكما قال لك هؤلاء المشركون، قال المكذبون الأولون لرسلهم".
وقد زعم بعض أعداء الإسلام من مستشرقين وغيرهم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان مصاباً بالصرع وبعض الأمراض النفسية التى أثرت عليه تأثيراً بالغاً، وهذا الذي كان يأتيه فيزعم أنه من الوحي إنما هو بعض آثار هذا المرض، واحتجوا لذلك بما كان يرافقه ويعتريه صلى الله عليه وسلم من أحوال غير معتادة بسبب ثقل الوحي عليه. والرد على هذا الافتراء من عدة وجوه:
أولا: أجمعت الأمة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر الأنبياء قبله من سائر الأمراض المنفرة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكافة الرسل قبله، قد اشتهروا بالعقل والحكمة، قبل النبوة وبعدها، وكان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس عقلاً، وأشدهم فطنة، وأصوبهم قولاً، وأحكمهم فعلاً، وقد تحدى الله عز وجل المشركين الذين عرفوه وعايشوه أن يثبتوا عليه جنوناً أو اختلال عقل، وذلك فى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}(سبأ:46)، قال القاسمي: "{مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} أي: جنون".
ومن قرأ وتدبر ـ بإنصاف وتجرد ـ سيرته صلى الله عليه وسلم سيدرك أن الحفظ الرباني والإعداد الإلهي هو الذي كان وراء كمال عقله وحكمته، قال الله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(الأنعام:124)، وقال: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(المائدة:67)، قال القاضى عياض: "واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان وكفايته منه، لا في جسمه بأنواع الأذى - كالجنون والإغماء -، ولا على خاطره بالوساوس".
ثانيا: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مريضاً بالصرع لوجد كفار قريش فى ذلك فرصة سانحة للطعن عليه، فالصرع كان معروفاً عند العرب، وكانوا يميزون المصروعين من غيرهم، فلو أنهم رأوا آثار وأعراض الصرع على النبي صلى الله عليه وسلم لكانوا أول ما يقول ذلك عنه، ولكن ذلك لم يحدث ولم يُنقل عنهم مع كثرة افتراءاتهم كذبا عليه صلى الله عليه وسلم.. ثم ما رأى هؤلاء الطاعنين المبطلين ـ وفيهم من ينتمى إلى اليهودية والنصرانية ـ فى أنهم لا ينالون من نبوة وعصمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما ينالون من جميع أنبياء الله ورسله الذين أُوحِي إليهم، وهل يقولون فى وحى نبى الله موسى وعيسى عليهما السلام ما يقولون فى وحى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟!.. فنبينا صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل فى باب الوحي، قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}(النساء:163)، والحق الذي لا ريب فيه: أنه لا نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من إخوانه من الأنبياء أصيب بصرع ولا غيره من مثل هذه الأمراض المنفرة، لعصمة وحفظ ربهم لهم، قال ابن حجر: "وعصمة الأنبِياء على نبيِّنا وعليهم الصلاة والسلام: حفظهم من النقائص، وتخصيصهم بالكمالات النفيسة، والنصرة والثَبات في الأمور، وإنْزال السَّكينة".
ثالثا: الفرق بين الوحي وأعراض الصرع: النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعتريه بعض الأحوال عند نزول الوحي عليه كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة، ومنها: أنه كان يصيبه عرق شديد حتى في الليلة الباردة، وتغشاه السكينة ويطرق برأسه إلى الأرض، ويسمع له غطيط فإذا سري عنه أخبر بما أوحي إليه، ويثقل وزنه، ويسمع صوت أزيز بجوار أذنه، ثم ينفصل عنه وقد وعى ما أوحي إليه.. وكل ما أصاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم من كربٍ وشدَّة وأحوال غير عادية لا شك أنها كانت بسبب ثقل الوحي الذي أخبره الله تعالى به قبل إنزاله عليه، كما أخبره سبحانه في ابتداء أمره بقوله: {إنِّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}(المزمل: 5)، قال السعدي: "أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل، أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه، وما كان بهذا الوصف، حقيق أن يُتهيَأ له".
فالوحي حالة لا يعرفها إلا الأنبياء، والمُوحَى به هو كلام الله عز وجل، قال أبو شامة المقدسي: "وهذا العرق الذي كان يغشاه صلى الله عليه وسلم، واحمرار الوجه، والغطيط، المذكوران في حديث يعلى بن أمية، وثقله على الراحلة، وعلى فخذ زيد بن ثابت كما ورد في حديثين آخرين: إنما كانت لثقل الوحي عليه كما أخبره سبحانه في ابتداء أمره بقوله:{إنِّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}(المزمل: 5)، وذلك لضعف القوة البشرية عن تحمل مثل ذلك الوارد العظيم من ذلك الجناب الجليل، وللوجل من توقع تقصير فيما يخاطب به من قول أو فعل"، وقال ابن إسحاق: "وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملهما ولا يستطيع لها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله عز وجل". ومن ثم فالأحوال المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تصاحبه عند نزول الوحي عليه سببها ثقل الوحي النازل عليه، وهي على خلاف ما نعرفه من أحوال المصروعين، وهناك فرق واضح بين صور الوحي الذى كان يتلقاه النبى صلى الله عليه وسلم وبين أعراض مرض الصرع الذى زعمه وافتراه المبطلون، فأعراض مرض الصرع كما جاء فى كتاب "الموسوعة العربية الميسرة": أن يرى المريض شبحاً، ويسمع صوتاً أو يشم رائحة ويعقب ذلك وقوع المريض صارخاً على الأرض، وفاقداً وعيه ثم تتملكه رعدة تشنجية تتصلب فيها العضلات، وقد يتوقف فيها التنفس مؤقتاً.. ويعقب النوبة خور فى القوى، واستغراق فى النوم يصحو منه المريض خالى الذهن من تذكر ما حدث له"، فإذا كان هذا هو الثابت علمياً عن الصرع، فهو بخلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يكن يظهر عليه شيء مما ذكر من أعراض هذا المرض عند نزول الوحي عليه، بل يظل فى تمام وعيه، وكامل قوته العقلية، قبل وأثناء وبعد الوحي.
رابعا: من المعلوم أن المصروع لا يذكر ما حصل معه أثناء صرعه، وواقع النبي صلى الله عليه وسلم على العكس من ذلك، فهو يأتي بما يسمعه على أتم وجه، ويسأل عن الذي كان الوحي السبب في نزوله. والمصروع يحتاج بعد نوبة صرعه إلى فترة راحة لشدة ما عاناه من تعب وألم، والنبي صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء نزول الوحي عليه يكون على حاله الذي كان عليه من قبل في قوة بدنه وعظمة فكره. كما أن المصروع يأتي بالهذيان والكلام الذي لا معنى له أثناء صرعه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي بالحكَم الجليلة والمواعظ الحسنة والأحكام العظيمة، فأين هذا من ذاك ؟! .
أقوال منصفة لبعض المستشرقين في ردهم على هذه الافتراء:
أقوال وشهادات بعض المستشرقين الذين أنصفوا في ردهم على هذا الافتراء على نبينا صلى الله عليه وسلم في مسألة الصرع كثيرة، يقول ماكس مايرهوف (مستشرق ألمانى): "أراد بعضهم أن يرى فى محمد رجلاً مصاباً بمرض عصبى أو بِدَاء الصرع، ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره، ليس فيه شيء يدل على هذا، كما أن ما قام به فيما بعد من التشريع والإدارة يناقض هذا القول". ويقول الكاتب والمؤرخ الأمريكي "ول ديورانت": "وليس في تاريخ محمَّد ما يدل على انحطاط قوة العقل التي يؤدي إليها الصرع عادة، بل نراه على العكس يزداد ذهنه صفاء، ويزداد قدرة على التفكير، وثقة بالنفس، وقوة بالجسم والروح والزعامة، كلما تقدمت به السن، حتى بلغ الستين من العمر. وقصارى القول: أنا لا نجد دليلاً قاطعاً على أن ما كان يحدث للنبي كان من قبيل الصرع، ومهما يكن ذلك الدليل: فإنه لا يقنع أي مسلم مستمسك بدينه".
قدْ تُنْكِر العين ضوء الشمس من رَمَد وينكر الفم طعم الماء من سِقم
على الرغم من علم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش بأحوال وأعراض المصروعين، واستحكام العداء بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وشدة حرصهم على تلفيق الكذب من التُّهم الباطلة التي اتهموه بها، كاتهامه بالسحر والجنون وقول الشعر، إلا أن تهمة إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بالصـرع لم تصدر عن واحدٍ منهم أبداً، وفي ذلك دلالة على أن هذه تهمة باطلة وافتراء كاذب من نسج خيال المبطلين المتأخرين، وصدق الله تعالى حين قال عن الكافرين بالنبي صلى الله عليه وسلم والمكذبين له والمفترين عليه ـ قديما وحديثا ـ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}(الأنعام:33). قال ابن كثير: "أي: ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم.. كما قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}".
وقد زعم بعض أعداء الإسلام من مستشرقين وغيرهم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان مصاباً بالصرع وبعض الأمراض النفسية التى أثرت عليه تأثيراً بالغاً، وهذا الذي كان يأتيه فيزعم أنه من الوحي إنما هو بعض آثار هذا المرض، واحتجوا لذلك بما كان يرافقه ويعتريه صلى الله عليه وسلم من أحوال غير معتادة بسبب ثقل الوحي عليه. والرد على هذا الافتراء من عدة وجوه:
أولا: أجمعت الأمة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر الأنبياء قبله من سائر الأمراض المنفرة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكافة الرسل قبله، قد اشتهروا بالعقل والحكمة، قبل النبوة وبعدها، وكان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس عقلاً، وأشدهم فطنة، وأصوبهم قولاً، وأحكمهم فعلاً، وقد تحدى الله عز وجل المشركين الذين عرفوه وعايشوه أن يثبتوا عليه جنوناً أو اختلال عقل، وذلك فى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}(سبأ:46)، قال القاسمي: "{مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} أي: جنون".
ومن قرأ وتدبر ـ بإنصاف وتجرد ـ سيرته صلى الله عليه وسلم سيدرك أن الحفظ الرباني والإعداد الإلهي هو الذي كان وراء كمال عقله وحكمته، قال الله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(الأنعام:124)، وقال: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(المائدة:67)، قال القاضى عياض: "واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان وكفايته منه، لا في جسمه بأنواع الأذى - كالجنون والإغماء -، ولا على خاطره بالوساوس".
ثانيا: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مريضاً بالصرع لوجد كفار قريش فى ذلك فرصة سانحة للطعن عليه، فالصرع كان معروفاً عند العرب، وكانوا يميزون المصروعين من غيرهم، فلو أنهم رأوا آثار وأعراض الصرع على النبي صلى الله عليه وسلم لكانوا أول ما يقول ذلك عنه، ولكن ذلك لم يحدث ولم يُنقل عنهم مع كثرة افتراءاتهم كذبا عليه صلى الله عليه وسلم.. ثم ما رأى هؤلاء الطاعنين المبطلين ـ وفيهم من ينتمى إلى اليهودية والنصرانية ـ فى أنهم لا ينالون من نبوة وعصمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما ينالون من جميع أنبياء الله ورسله الذين أُوحِي إليهم، وهل يقولون فى وحى نبى الله موسى وعيسى عليهما السلام ما يقولون فى وحى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟!.. فنبينا صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل فى باب الوحي، قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}(النساء:163)، والحق الذي لا ريب فيه: أنه لا نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من إخوانه من الأنبياء أصيب بصرع ولا غيره من مثل هذه الأمراض المنفرة، لعصمة وحفظ ربهم لهم، قال ابن حجر: "وعصمة الأنبِياء على نبيِّنا وعليهم الصلاة والسلام: حفظهم من النقائص، وتخصيصهم بالكمالات النفيسة، والنصرة والثَبات في الأمور، وإنْزال السَّكينة".
ثالثا: الفرق بين الوحي وأعراض الصرع: النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعتريه بعض الأحوال عند نزول الوحي عليه كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة، ومنها: أنه كان يصيبه عرق شديد حتى في الليلة الباردة، وتغشاه السكينة ويطرق برأسه إلى الأرض، ويسمع له غطيط فإذا سري عنه أخبر بما أوحي إليه، ويثقل وزنه، ويسمع صوت أزيز بجوار أذنه، ثم ينفصل عنه وقد وعى ما أوحي إليه.. وكل ما أصاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم من كربٍ وشدَّة وأحوال غير عادية لا شك أنها كانت بسبب ثقل الوحي الذي أخبره الله تعالى به قبل إنزاله عليه، كما أخبره سبحانه في ابتداء أمره بقوله: {إنِّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}(المزمل: 5)، قال السعدي: "أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل، أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه، وما كان بهذا الوصف، حقيق أن يُتهيَأ له".
فالوحي حالة لا يعرفها إلا الأنبياء، والمُوحَى به هو كلام الله عز وجل، قال أبو شامة المقدسي: "وهذا العرق الذي كان يغشاه صلى الله عليه وسلم، واحمرار الوجه، والغطيط، المذكوران في حديث يعلى بن أمية، وثقله على الراحلة، وعلى فخذ زيد بن ثابت كما ورد في حديثين آخرين: إنما كانت لثقل الوحي عليه كما أخبره سبحانه في ابتداء أمره بقوله:{إنِّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}(المزمل: 5)، وذلك لضعف القوة البشرية عن تحمل مثل ذلك الوارد العظيم من ذلك الجناب الجليل، وللوجل من توقع تقصير فيما يخاطب به من قول أو فعل"، وقال ابن إسحاق: "وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملهما ولا يستطيع لها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله عز وجل". ومن ثم فالأحوال المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تصاحبه عند نزول الوحي عليه سببها ثقل الوحي النازل عليه، وهي على خلاف ما نعرفه من أحوال المصروعين، وهناك فرق واضح بين صور الوحي الذى كان يتلقاه النبى صلى الله عليه وسلم وبين أعراض مرض الصرع الذى زعمه وافتراه المبطلون، فأعراض مرض الصرع كما جاء فى كتاب "الموسوعة العربية الميسرة": أن يرى المريض شبحاً، ويسمع صوتاً أو يشم رائحة ويعقب ذلك وقوع المريض صارخاً على الأرض، وفاقداً وعيه ثم تتملكه رعدة تشنجية تتصلب فيها العضلات، وقد يتوقف فيها التنفس مؤقتاً.. ويعقب النوبة خور فى القوى، واستغراق فى النوم يصحو منه المريض خالى الذهن من تذكر ما حدث له"، فإذا كان هذا هو الثابت علمياً عن الصرع، فهو بخلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يكن يظهر عليه شيء مما ذكر من أعراض هذا المرض عند نزول الوحي عليه، بل يظل فى تمام وعيه، وكامل قوته العقلية، قبل وأثناء وبعد الوحي.
رابعا: من المعلوم أن المصروع لا يذكر ما حصل معه أثناء صرعه، وواقع النبي صلى الله عليه وسلم على العكس من ذلك، فهو يأتي بما يسمعه على أتم وجه، ويسأل عن الذي كان الوحي السبب في نزوله. والمصروع يحتاج بعد نوبة صرعه إلى فترة راحة لشدة ما عاناه من تعب وألم، والنبي صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء نزول الوحي عليه يكون على حاله الذي كان عليه من قبل في قوة بدنه وعظمة فكره. كما أن المصروع يأتي بالهذيان والكلام الذي لا معنى له أثناء صرعه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي بالحكَم الجليلة والمواعظ الحسنة والأحكام العظيمة، فأين هذا من ذاك ؟! .
أقوال منصفة لبعض المستشرقين في ردهم على هذه الافتراء:
أقوال وشهادات بعض المستشرقين الذين أنصفوا في ردهم على هذا الافتراء على نبينا صلى الله عليه وسلم في مسألة الصرع كثيرة، يقول ماكس مايرهوف (مستشرق ألمانى): "أراد بعضهم أن يرى فى محمد رجلاً مصاباً بمرض عصبى أو بِدَاء الصرع، ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره، ليس فيه شيء يدل على هذا، كما أن ما قام به فيما بعد من التشريع والإدارة يناقض هذا القول". ويقول الكاتب والمؤرخ الأمريكي "ول ديورانت": "وليس في تاريخ محمَّد ما يدل على انحطاط قوة العقل التي يؤدي إليها الصرع عادة، بل نراه على العكس يزداد ذهنه صفاء، ويزداد قدرة على التفكير، وثقة بالنفس، وقوة بالجسم والروح والزعامة، كلما تقدمت به السن، حتى بلغ الستين من العمر. وقصارى القول: أنا لا نجد دليلاً قاطعاً على أن ما كان يحدث للنبي كان من قبيل الصرع، ومهما يكن ذلك الدليل: فإنه لا يقنع أي مسلم مستمسك بدينه".
قدْ تُنْكِر العين ضوء الشمس من رَمَد وينكر الفم طعم الماء من سِقم
على الرغم من علم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش بأحوال وأعراض المصروعين، واستحكام العداء بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وشدة حرصهم على تلفيق الكذب من التُّهم الباطلة التي اتهموه بها، كاتهامه بالسحر والجنون وقول الشعر، إلا أن تهمة إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بالصـرع لم تصدر عن واحدٍ منهم أبداً، وفي ذلك دلالة على أن هذه تهمة باطلة وافتراء كاذب من نسج خيال المبطلين المتأخرين، وصدق الله تعالى حين قال عن الكافرين بالنبي صلى الله عليه وسلم والمكذبين له والمفترين عليه ـ قديما وحديثا ـ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}(الأنعام:33). قال ابن كثير: "أي: ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم.. كما قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}".