مساحة اعلانات نصية ذهبية |
||
اعلن هنا | اعلن هنا | اعلن هنا |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
الفستان .. مصطفي محمود
الفستــــــــــــــــــــــان!
بقلم: د. مصطفي محمود كان الرجل ينادي علي المزاد بصوت جهوري والعيون من حوله تحملق في المعروضات. فستان الأميرة جلبهار مطرز بالألماس والياقوت والفيروز, كرسي فوتيل موديل لويس الرابع عشر.. سرير بظهر منجد كابتونيه بلوحات من الحرير الملون.. فازة سيراميك بلجيكي عليها صورة الامبراطورة كاترينا.. تحف قصر صاحبة الفخامة الأميرة جلفدات هانم. وجلجل بالجرس. نبدأ المزاد علي الفستان.. السعر الأول الف جنيه.. الف جنيه.. مين يزود.. الف جنيه فستان الأميرة.. الا أونا ألا دويا.. ألا تريا.. وتقدم خبير في المجوهرات وبدأ يفحص الفصوص علي صدر الفستان وأكمامه, ويحملق فيها بعدسة مكبرة ويهز رأسه ويمصمص شفتيه. وتصاعدت الأرقام الي ألف وخمسمائة.. ألفين.. ثلاثة آلاف, ثلاثة آلاف وخمسمائة, أربعة آلاف, اربعة آلاف وخمسمائة. خمسة آلاف وخمسمائة. وظل السمسار يقرع الجرس وينادي. خمسة آلاف وخمسمائة ـ خمسة آلاف وخمسمائة. وقام رجل من الحضور.. عجوز.. عجوز مقوس الظهر مثل جميزة عتيقة يتوكأ علي عكازين, ويسعل ويبصق ويمسح علي نظارة سميكة مثل المونوكل.. وتقدم من المنصة وكتب شيكا بستة آلاف جنيه, وأخذ الفستان وحمله في احترام وتقديس كأنه يحمل مصحفا, وتابعته أنظار الموجودين وهم يتوقعون ان يكون صاحب الرولزرويس الخضراء التي يقف علي بابها سائق في زي رسمي, أو أن يكون صاحب العربة الليموزين السوداء المكتوب عليها سلك دبلوماسي.. ولكنه فاجأ العيون بدخوله في تاكسي قديم متهالك ينتظره أمام الباب. وسار التاكسي يكركر وينفث الدخان الأسود, ويتوقف مثل دابة نفقت علي الطريق الزراعي, ثم يعود فينطلق بعد حشرجة. ودخل التاكسي في شارع كبير واسع ثم في شوارع أضيق ثم في حارة ثم في زقاق مسدود. وخرج العجوز يترنح بعكازيه ومن خلفه السائق يحمل له الفستان. واختفي الاثنان في بيت قديم. وفي غرفة صغيرة علي السطح كان العجوز ينقد السائق أجره ثم يغلق الباب ويحمل الفستان في احترام وتقديس, ويمدده علي الفراش وينحني عليه يقبله في كل شبر, ويبكي ويتهدج كطفل ويشم اعطاف الفستان ويهمس: ـ حتي رائحة الروز.. مازالت في فستانك ياجولي.. ياأحب من أحببت في دنياي. وكان ينفل البصر بين الفستان وبين صورة كبيرة علي الحائط للأميرة جلبهار أو جولي, كما كان يدعوها وكان يكلم الفستان وكأنه يكلمها. ـ ماأسعدني وأنا أشتري لك الفستان للمرة الثانية وأقدمه لك للمرة الثانية ياجولي. ياإلهي.. ماأعجب ماكان يفعل بنا الضعف.. فنتحول إلي اطفال نأثم في براءة. كان ذلك منذ ثمانين عاما.. وكنا حينذاك سادة الدنيا وأهل الوقت. أتذكرين المرة الأولي التي قدمت لك فيها هذا الفستان هدية.. كان ذلك في عيد ميلادك العشرين.. وفي باريس.. وكنا نرتب للزواج.. وكان كل شئ جميلا ورائعا, وكنت من فرط نشوتي بك لاأدري في أي مكان انا ولا في أي زمان ولا في أي عصر.. كان المكان والزمان هما أنت.. كانت باريس هي أنت والوقت هو حضورك.. وكان المكان يختفي والزمان يتوقف حينما تنصرفين. ياإلهي ماأعجب ماأودعت في الحب من أسرار. أتصدقين ياجولي لو قلت لك إني كنت أشعر إني أعيش في الغيب, لاأحضر في الدنيا حتي تناديني عيناك فأحيا وأتنفس, وآكل وأشرب وأحب وأرغب, وأشعر بنفسي عارمة بين جنبي حتي تفارقيني فتفارقني الروح وأعود عدما غائبا مغيبا كما كنت. آه.. كم أحببتك لدرجة المرض والأزمة. وكم قتلني هؤلاء الذين دخلوا بيننا, ووضعوا بين يديك هذه الخطابات عن العلاقة القديمة التي كانت في حياتي.. ولم تكن شيئا يذكر.. بل كانت امرا تافها وماضيا لا وزن له. ولكنك اشتعلت نارا وظننت الماضي حيا وباقيا وأقسمت أن تتزوجي الرجل الآخر لتعاقبيني... وقد عاقبت نفسك معي وقتلت نفسك معي... وبدأ الليل الطويل الذي استمر ثمانين عاما يخيم علي حياتنا, وفي أثناء هذه الأعوام الثمانين قامت ثورات وحروب وانقلابات, وانطلقت مدافع وهتافات ورشاشات وتشرد ملوك وسجن أمراء, وطرد أصحاب قصور إلي العراء, وتدلي من أعواد المشانق أناس كانوا بالأمس في عزة السلطان. فهل تصدقينني ياجولي إني لم أكن أسمع من ضوضاء التاريخ التي كانت تقصف في الخارج إلا حفيف ثوبك. حفيف ثوبك في ذلك المساء وأنت تختلسين إلي الخطي وأنهار الدموع تغطي خديك, وأنت تهمسين بصوتك المتهدج في تلك الدقيقة الخاطفة التي التقينا فيها, وكأننا قطاران يصفر كل منهما ليمضي في طريق مضاد... وأذكر كل كلمة ومازلت أسمعها تأتي إلي أذني مبللة بالدمع. لقد أخطأت يامراد وقتلت نفسي. أحبك ولا أمل. أراك دائما في كل شيء حتي في عيون أولادي حتي في فراش زوجي. لم أستطع الثورة علي حقيقتي فغلبت الحقيقة علي كل شيء ولونت كل شيء. وداعا ولا وداع, فأنا أحملك معي حيثما ذهبت تحت جلدي وفي دمي. وصفر القطاران ومضت كل حياة في اتجاه. وشعرت كأنما أنسلخ من نفسي وأمضي في اتجاهين في وقت واحد. وامتدت هذه اللحظة الحافلة بالمشاعر, وتشخصت فأصبحت كل حياتي وغرقت كل حوادث التاريخ وضوضاء الانقلابات والثورات, وبهتت وارتدت الي الخلفية البعيدة فأصبحت ستارا شبحيا خافتا ترتسم عليه صورتان كبيرتان أنا وأنت. ولم أهتز كثيرا حينما صودرت أملاكي, ولم أمت حينما وضعت أموالي تحت الحراسة فقد سلخت جلدي فماذا يهم أن أخذ أحدهم ثوبي والآخر حافظتي.. وماذا بعد سلب الروح والأحشاء.. ماذا يهم الرداء. ولهذا فحينما فكت الحراسات وعادت إلي بعض أموالي وجدت نفسي أسعي إلي فستانك لأشتريه مرة ثانية. وأهديه إليك مرة ثانية وأمرغ أنفي في أعطافه وأشم فيه عمري. وماذا تهم النقود لرجل في سني فقد أسنانه وسمعه وبصره وساقيه.. ماذا تساوي. وهل أنا إلا حبك. صدقيني ياحبيبتي أن عند الله لحظة يؤيدها في كتابه ويهتز لها عرشه.. هي لحظة فراق حبيبين. إنها لحظة كانشطار الذرة أحيانا يحجب صوتها ضوضاء التاريخ كله, وتتشوه بسببها الأجنة في الأرحام. ويتلوث الماء والهواء والبحر والطعام والحياة. وذلك يحدث عند أهل القلوب وأهل القلوب ليس لهم طبقة. إنما صادف أن كنت حفيدا لإقطاعي. وذلك أمر لم يتجاوز اسما في بطاقة. ولكن حقيقتي التي لم يعرفها أحد... إني رجل أحب... وإن ثروتي الوحيدة التي حرصت عليها كانت حبك... فلما ضاعت لم أشعر بأي شيء ضاع بعد ذلك. جولي.. ياابنتي... ياأمي... ياوطني.. ياغرفتي الخاصة... ياوسادتي... ياسري الحميم... خذي فستانك من اليد التي أحببتها هدية للمرة الثانية.. وإلي أن نلتقي لك الروح والفؤاد... |
pakgestore | pakgestore | pakgestore | pakgestore | pakgestore | pakgestore | pakgestore | pakgestore | pakgestore | pakgestore |
تشليح الرياض | مساحة إعلانيه |