المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المفتي موقع عن الله


eshrag
01-24-2017, 09:50 PM
في الإسلام: المفتي نائب عن الله في خلَقهِ!


مُوقع عن الله يعطيه سلطة أشبه بتوقيعات نوّاب الملوك عن الملوك! فالتوقيع هو ما يكتبه الملك على المعاريض لتصريف شؤون الرعية!

تنال الفتوى في أيامنا هذه سلطة هائلة على الناس، سلطة مرتبطة في كثير من جوانبها بالسلطان السياسي، وبالسلطان الشعبوي من جانب آخر، عشرات من القنوات الفضائية، والمجلات والجرائد، مئات من المواقع الإلكترونية، كلها مخصصة للفتوى والاستفتاء، إنها ـ بلا حاجة إلى دليل سوى ضرورة الواقع الذي نشهده جميعًا ـ ظاهرة واضحة التضخم، تنثال الأسئلة على المفتين بدءًا من المسائل السياسية الكبرى، وانتهاء بلبس البنطال، وتشقير الحواجب!

للفتوى أهميتها عند أئمة المسلمين، ومنزلة المفتي عظيمة عندهم حتى لنجد أنّ ابن القيم يقول في عظم شأن المفتين: "فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام؛ فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب. فطاعة المفتي عند الإمام ابن القيّم الجوزية أوجب من طاعة الآباء والأمهات، معتمدًا على تفسير ابن عباس وغيره في تفسير قابل لتعدد الأفهام.

بل إن ابن القيّم يخطو خطوة أخرى إلى الأمام فيرى أنّ "الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم؛ فطاعتهم تبع لطاعة العلماء؛ فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم".

ثم يخطو ابن القيّم خطوة أكثر عمقًا فيرى أنّ الإفتاء منصب تولاه بنفسه رب الأرباب، إذ يقول سبحانه:وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء: 127]. ولهذا يوصي المفتي بأن يعلم عمّن ينوب! فكأن المفتي نائب عن الله في خلقه! ولهذا قيل عن المفتي بأنه (موقع عن الله) يعطيه سلطة أشبه بتوقيعات نوّاب الملوك عن الملوك! فالتوقيع هو ما يكتبه الملك على المعاريض لتصريف شؤون الرعية!

صفات المفتي:

صفات المفتي مبسوطة في كتب الأصول وكتب الفتيا، وهي متشابهة في ما بينها، لن أطيل بنقل جميعها؛ فأكتفي ـ لهذا السبب ـ بما نقله الإمام ابن القيّم عن الإمام أحمد عن خصال المفتي، قال ابن القيّم: "ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتابه في الخلع عن الإمام أحمد أنه قال: (لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال):

أولها: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.

والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.

الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته.

الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس.

الخامسة: معرفة الناس".

تناول ابن القيّم شرح هذه الخصال الخمس بما لا نطيل فيه، إذ يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق كما يقال، غير أنه من المفيد أن نسلط الضوء على فهم ابن القيّم لهذه الصفات الخمس.

1. أما النيّة الصالحة فأفاض ابن القيّم في أن الفتوى يجب أن تكون لوجه الله، لا لنيل المناصب ولا المآرب الدنيوية والمنافع العاجلة، من الأموال والشهرة والأضواء والاستحواذ على الأتباع ووجوه الناس.

2. أما الحلم والوقار والسكينة فهي كما قال ابن القيم "ضد الطيش والعجلة والحدّة والتسرع وعدم الثبات؛ فالحليم لا يستفزه البدوات، ولا يستخفه الذين لا يعلمون، ولا يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل". فالواجب على المفتي أن يكون حليمًا متزنًا متثبتًا غير متعجّل ولا صخّاب ولا طائش، فالمفتي إذن "وقور ثابت ذو أناة يملك نفسه عند ورود أوائل الأمور عليه ولا تملكه أوائلها".

فيملك نفسه ويستوعب الحدث، ويتأنّى، ويدرك مصالح الأمر ومفاسده، ومصادره وموارده قبل أن يقول فيه برأي، "وملاحظته للعواقب تمنعه من أن تستخفه دواعي الغضب والشهوة".

3. أما القوة في العلم فيلخص ابن القيّم شرحها بقوله: "فالمفتي محتاج إلى قوة في العلم وقوة في التنفيذ، فإنه لا ينفع تكلمٌ بحق لا نفاذ له".

4. أما ما يتعلق بالـكفاية فالمقصد بها أن يكون مستغنيًا عن (الناس)، له مصدر دخله الخاص به لئلا يرتهن لأحد، والناس لفظة عامّة تشمل العوام، والجهات، والأحزاب، والدول وغيرها، فعلى المفتي أن يكون (حرًّا) اقتصاديًا لئلا ينال من دينه وعرضه واستقلاله، يلخص هذا قول ابن القيم شارحًا هذه الخصلة: "فإنه إذا لم يكن له كفاية احتاج إلى الناس وإلى الأخذ مما في أيديهم، فلا يأكل منهم شيئا إلا أكلوا من لحمه وعرضه أضعافه".

فيم تكون الفتوى؟!

إذا علمنا أنّ معنى الفتوى دائر على الإخبار بـ(حكم)، فهل هذا الحكم مختص بقطعيات الشريعة فقط؟ أم هل أنّه يشمل الاجتهاديات والاستنباطات كذلك؟!

ابتداءً أحب أن أبيّن ما يقوله بعض العلماء في هذه المسألة، ثم أضع يدي على مواطن تساؤلات تستدعي التوقّف.

ما الذي على المفتي أن يبيّنه؟ حكم الله فقط؟ أم حكم الله واجتهاده أيضًا؟

نجد أن علماء الأصول يوجبون على المفتي أن يكون (مجتهدًا)، لا (مقلّدًا)، وإلا فليس له الحق في أن يفتيَ.

لماذا نذكر الاجتهاد؟! لأنه سيجيبنا عن سؤالنا الآنف الذكر (فيم تكون الفتوى)؟

أما عن كون علماء الأصول يوجبون أن يكون المفتي مجتهدًا فأسوق هاهنا بعض أقاويلهم.

يقول الإمام أبو الحسين البصري يرحمه الله في كتابه الشهير المعتمد:

"اعلم أنه لا يجوز للمفتي أن يفتيَ بالحكاية عن غيره بل إنما يفتي باجتهاده".

وفي الكوكب المنير: "لا يفتي إلا مجتهد".

وقال أبو المظفر السمعاني: "المفتي من العلماء من استكملت فيه ثلاث شرائط

أحدها: أن يكون من أهل الاجتهاد".

وقال القرافي: "اعلم أنّ المفتي في اصطلاح الأصوليين كما في تحرير الكمال هو المجتهد المطلق وهو الفقيه".